في انتظار وقف إطلاق النار في غزة، لينعكس على جبهة الجنوب، لم يتولّد الاقتناع الكافي بعد أن يتوصل المجتمع الدولي والولايات المتحدة الاميركية الى اتفاق يضمن هدوءا شاملا ونهائيا بعد استكمال تطبيق القرار 1701، للانتقال من مرحلة وقف الاعمال الحربية الى وقف نهائي لاطلاق النار. فلا يكفي ان ينفي المسؤولون او يؤكدوا وجود اي طرح يقود الى هذا الاقتناع او عكسه بعدما شكّك الموفد الاميركي بنجاح هذا المسعى. وعليه، ما الذي يفسر هذه المعادلة؟
ما ان تداولت الاوساط الإعلامية والسياسية ما ذكرته مجموعة من التقارير الديبلوماسية والسياسية التي تشكك بوجود اي مشروع أممي او اميركي يؤدي الى وقف شامل لإطلاق النار يرسي سلاما شاملا ودائما في جنوب لبنان، حتى انبرت القيادات اللبنانية الرسمية الى نفي التوصل الى اي اتفاق في هذا الشأن من دون الاشارة الى ما هو مطروح في الزيارات المكوكية التي يقوم بها الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتاين وما تقدّم به من طروحات اولية مع المسؤولين، لا سيما منهم رئيس مجلس النواب نبيه بري، في الطريق المؤدية الى «اتفاق اطار» جدي يعلن عنه فور التوصّل الى الهدوء في الجنوب اللبناني الذي يسمح ببدء المفاوضات.
ولم يكن خافياً على احد انّ مثل هذه الطروحات لا تقف عند الطرح الاميركي فحسب، انما هناك مبادرة فرنسية أخرى تقدم بها وزير الخارجية الفرنسية ستيفان سيجورنيه بالتزامن مع طرح مماثل تقدّم به وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون ونظيرته الألمانية الإتحادية انالينا بيربوك التي تحدثت على مرحلتين عن مسلسل من الخطوات المؤدية الى وقف التصعيد توصّلاً الى مرحلة من السلام الشامل والدائم. ويُضاف اليها ايضا ما نقلته رئيسة الحكومة الايطالية جورجيا ميلاني الى بيروت من أفكار وضعت في إطار الهجمة الديبلوماسية التي شهدتها بيروت، ولم تغب هذه التفاصيل أيضا عن زيارة وزيرة الخارجية الكندية ميلاني جولي ايضا التي حملت سلة من الأفكار قالت انها بالتنسيق مع المجتمع الدولي وشركائها في المنطقة.
وبمعزل عما انتهت إليه هذه التحذيرات الدولية والاممية، بما فيها تلك التي نقلها موفدو الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية والدولية والإقليمية ومعها مضمون الرسائل التي وصلت الى المسؤولين اللبنانيين على مختلف المستويات الحكومية والديبلوماسية والعسكرية بكل اللغات المعترف بها دولياً، يجدر بأيّ باحث عن مستقبل الوضع وما هو مقدر من تطورات على الصعد كافة ان يراقب ويتابع المواقف الاميركية مما يجري في المنطقة قبل البحث عن تفاصيل الازمة اللبنانية التي أُلحِقت عسكريا وسياسيا ورئاسيا بما يجري في غزة بقدرة قادر، تمكن من إلحاق الساحة اللبنانية بالساحات الملتهبة في غزة والمنطقة. وعندها سيكون على طالب هذه المعطيات التي دلت إليها تصريحات المسؤولين الاميركيين ولا سيما منها تلك التي صدرت عن وزيري الدفاع والخارجية الأميركيين لويد اوستن وانتوني بلينكن بما فيها من تحذيرات تناولت تداعيات توسّع الحرب الى الجبهة الشمالية لإسرائيل وما يمكن ان تستدرجه من تدخل ايراني وربما دول اخرى ما زالت تتفرج على ما يجري او انها تتدخل بطريقة غير مباشرة من دون إعلان، على رغم من معرفة القوى الكبرى بأدوار دول متعددة تشارك في العمليات العسكرية إن على مستوى المعلومات او التجهيزات التي تسمح بالاختراقات المتبادلة لأنظمة الأمن والشيفرات العسكرية والمعلومات الاستخبارية الدقيقة التي سمحت بعمليات دقيقة وموجعة جداً، وقد فاجأت أوساط عدة لم تحتسبها يوماً على رغم من قدراتها المتقدمة على اكثر من مستوى.
وإن أراد المراقبون التوغل في تفاصيل ما يدبّر للبنان في المرحلة المقبلة على المستويات الامنية والسياسية والانمائية والرئاسية، عليه البحث ما بين سطور المواقف القليلة التي أطلقها هوكشتاين بين بيروت وتل أبيب وباريس وواشنطن والتي تحدث فيها عن عناوين الخطة التي يعمل عليها بكد، وهو يستعد بكل قدراته مطمئناً الى ما يمكنه القيام به، بعدما ضمن ثقة الاطراف كافة في لبنان والمنطقة. وهو ينتظر مرحلة ما بعد وقف النار في غزة للكشف عنها بعدما يكون قد أنجز ما تحتاجه الارضية الصالحة لِما يمكن طرحه على طاولة المفاوضات بطريقة يضمن التوصّل الى تطبيقها في ظروف ممكنة. وكل ذلك يجري في وقت تعددت «عروض الغنج والدلع والتشكيك العلني» بما بات ضامناً له من معطيات تقود الى التفاهم الكامل في وقت قد لا يطول انتظاره.
وما يبرّر هذا الكلام ما أعاد هوكشتاين ترداده أكثر من مرة من منبر عين التينة ومن باريس قبل لقاءاته مع الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان وبعده. وبمعزل عمّا يبوح به من معطيات في حركة الإتصالات المفتوحة مع بعض المسؤولين اللبنانيين المفتونين بصداقته، وباتوا يَحصون له جولاته السياحية بين الجزر اليونانية وباريس ولندن ومدريد وعواصم ومنتجعات عدة يجول فيها منذ فترة غير قصيرة بهدف السياحة والمشاركة في لقاءات ومؤتمرات متخصصة، عدا عن زياراته لتل أبيب وبيروت.
وتأسيساً على ما تقدّم، وفي هذا الإطار بالذات دعا احد أبرز العارفين الى العودة الى مضمون ما تسرّب من رؤية هوكشتاين للحل، مُحذّراً أي واهِم من انه سيكون ممكناً البحث عما يسمّيه لبنان تظهير وتثبيت الحدود الدولية اللبنانية المعترف بها منذ العام 1923 ان يتناول البحث مصير النقطة «B1» جنوب نفق الناقورة. كما بالنسبة الى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا في اي مفاوضات مقبلة حول النقاط المختلف عليها. وهي عملية لا يجب الفصل بينها وإصراره على استبدال ما يُقال عن الحدود اللبنانية الجنوبية بالحديث عن «الخط الأزرق»، وهو أمر يجب تفهمه بشكل واضح توصّلاً الى ما يريده الرجل في النهاية. فهو أمسَك بملف ترسيم الحدود البحرية بعد سلسلة المبادرات التي قادها اسلافه وحقّق ما لم يحققه ايّ منهم والدفع بلبنان الى ما وراء الخط 29، وأشركَ اسرائيل في «حقل قانا» اللبناني وضمن حقها باستخراج الغاز والنفط من حقل كاريش رغم ما يحوط به من مسيرات وصواريخ ذكية برية وبحرية وجوية.
وللدلالة على ما يتوقعه هوكشتاين مطمئناً إلى موافقة أطراف النزاع، يستدعي العودة الى محاضرته في «معهد كارنيغي للسلام الدولي» في 30 ايار الماضي في قلب واشنطن عندما كشف صراحة عن «اتفاق للحدود البرية بين إسرائيل ولبنان يتم تنفيذه على مراحل قد يخفف من النزاع المحتدم والدامي بين البلدين». وأضاف بما لا يحتاج الى اي تفسير قائلاً: «لا أتوقع السلام، السلام الدائم… بين «حزب الله» وإسرائيل».
وختاماً، ينبغي على الغافلين، ومعهم الذين تَعاموا عن فهم هذه «المعادلة الهوكشتاينية»، انّ كل ما هو مطروح لم يرد منه التوصّل الى سلام شامل ودائم وعادل في جنوب لبنان وأن هناك حاجة ماسّة لإبقاء «مسمار جحا» في مكان ما. وعليه، فإنّ ما تمّت التضحية به من مساحات في الترسيم البحري مرشّح لتكراره في الحدود البرية – بفارق عامين لا أكثر ولا أقل – وذلك لقاء أثمان تدفع في مكان آخر فيستبدل «الحديد بالقضامي». وإنّ غداً لناظره قريب.