يتأكد اللبنانيون يوماً بعد يوم مع تطور الموقف الميداني الذي ينشر الدمار والتهجير على كل مساحة الوطن أنهم رهائن للخارج بكل ما يعنيه هذا المفهوم. الجغرافيا اللبنانية هي ميدان لصراع إقليمي واللبنانيون هم ضحاياه كأشلاء يتم انتشالها من تحت الركام أو كنازحين يجولون بأمتعتهم بحثاً عن مأوى لم تقوَ مرجعياتهم السياسية التي تحكمت بأقدارهم لعشرات السنوات على تأمينه. مدن لبنان وقراه التي تدمر تباعاً هي رهن الصراع إياه، والإقتصاد المتهالك بما يعنيه من بقايا لفرص عمل واستثمار، كذلك الجامعات والمدارس بما تمثّل من رؤية لمستقبل الأجيال تدفع تباعاً ثمن هذا الصراع الإقليمي.
الإعلام الرسمي بدوره غائب بشكل كلي عن الأحداث، ليس في تغطية العمليات العسكرية ــــ فالواقع ندركه جميعاًــــــ بل في المبادرة الى تقديم صورة حقيقية عن الإختراق الإسرائيلي للحدود الجنوبية وحجم الدمار الذي تعرضت له القرى، واستطلاع أوضاع المواطنين وتقديم تصوّر للتدابير التي يجب أن تواكب العدوان المستمر والنزوح المتفاقم. إن ما يتلقاه اللبنانيون يقتصر على معلومات ميدانية مصدرها وسائل إعلام العدو الإسرائيلي أو بيانات حزب لله، بما يجعل الحقائق المتوفرة رهن بإعتبارات أمنية لكل من الفريقين المتصارعين.
وأما أبرز تجليات حالة التغوَل الإقليمي فهي في انهيار الحوكمة بشكل كامل وهو ما تظهره حالة الإنكار التي تعيشها الدولة على المستويين السياسي أو الإجتماعي – السياسي، وافتقادها لأبسط مقوّمات الأهلية والمسؤولية. لقد مارست الدولة أقصى درجات الإنفصال عن مواطنيها فاختبأت خلف شعارات الوحدة الوطنية وألقت بتبعات النزوح على أقرانهم من المواطنين متجاهلة التداعيات الأمنية والإجتماعية الناتجة عن الإكتظاظ السكاني المتنامي وأحياناً عن التناقض في العادات وقواعد التصرف إلى جانب تبعات استخدام الفائض المالي المتوفر لدى بعض النازحين، بما يؤسّس للعديد من الإشكالات في المستقبل. ربما يعتبر القيّمون على السلطة والقرار في لبنان أن مسألة النزوح ، بما هي إحدى تبعات الصراع الإقليمي، ليست من مسؤوليتهم وأن دورهم يقتصر على طلب المساعدات التي تتوافد بشكل يومي الى لبنان، وإداراتها والسعي للحصول على الأموال لإعادة الإعمار الذي هو بدوره هماً إقليمياً لا شأن لهم به.
أما على المستوى السياسي، فبالرغم من المأساة والدمار الذي يتحمله اللبنانيون تلقي طهران بثقلها بما لا يبقي للبنان أي هامش للمناورة وبما يسقط كل المسارات الدبلوماسية إلا خيار الحرب التي اختارت طهران لبنان أحد مسارحها. وبهذا لم يعد للبنان سوى تلبية دعوات تعقد من أجله دون أية نتيجة، كان آخرها «المؤتمر الدولي لدعم اللبنانيين والسيادة اللبنانية» بدعوة من فرنسا والأمم المتّحدة. لقد كان الإليزيه واضحاً في التعبير عن أزمة لبنان:» إن المرتجى من المؤتمر أن يسعى لتعبئة الأسرة الدولية للتعبير عن تضامنها مع لبنان، والتشديد على أهمية التوصل إلى حل سياسي (للحرب)، وتعزيز عناصر السيادة اللبنانية …….. وتسهيل الحل السياسي على قاعدة القرار 1701». يدرك المؤتمرون الذين يمثلون سبعين بلداً و15 منظمة دولية أن الإشكالية الأساس هي في انهيار السلطة وفي الهيمنة الإيرانية على قرار لبنان، وهذا ما ألفوه من تباين بين موقف رئيس المجلس النيابي نبيه بري والرئيس نجيب ميقاتي حيال تطبيق القرار 1701 بكافة مندرجاته».
لقد ارتكبت المنظومة السياسية التي تحكم لبنان جريمة إسقاط مشروع الدولة عندما أخضعت تطبيق وثيقة الوفاق الوطني لرغبات الإقليم في استثناء حزب لله من تسليم السلاح أسوّة بباقي الميليشيات اللبنانية. أُسقطت وثيقة الوفاق الوطني فسقط الدستور وأسقط معه مشروع قيام الجمهورية الثانية التي أستُعيض عنها بجملة من الأعراف السياسية أسّست لجمهورية غير دستورية في خدمة الإقليم، وكانت السبب في الفشل المستمر في تكوين السلطة وفي عدوان العام 2006 الذي لم يكن سوى إنعكاساً لتقاطعات المصالح الدولية التي تحمّل لبنان أعباءها وأثمانها.
لم يتعظ السياسيون من نتائج تجربة إسقاط وثيقة الوفاق الوطني فأخضعوا القرار 1701 للمعادلة الإقليمية عينها التي أدت الى مزيد من التغوّل على سيادة لبنان. أجل لقد أُدخل القرار 1701 منذ توقيعه في متاهة الصراع الإقليمي بين إيران وإسرائيل حيث تبارت الدولتان في تجاوزه بكل أنواع الإرتكابات التي لم تكن سوى منظومة من الخدمات المتبادلة عززت الحكومات المتطرفة في الداخل الإسرائيلي، كما عززت النفوذ الإيراني في لبنان وسوريا، وهي ما اصطلح على تسميّتها في حينه بقواعد الإشتباك.
يخضع لبنان اليوم للتجربة عينها مع ظهور تباينات في المصالح الدولية في منطقة الشرق الأوسط، وليس المشهد في كلّ من غزة ولبنان سوى مرآة لتقييدات حادة في المصالح الإقليمية تضع الولايات المتحدة شروطها الدقيقة. فهل يستفيق اهل السلطة من متاهات الرهان على الوهم الإيراني الذي دمر لبنان في خضم امتثال الوكيلين المتنافسين الإسرائيلي الإيراني للشروط الأميركية وإصرار المجتمع الدولي على استعادة القرار 1701 وإخضاع مندرجاته كافة للتطبيق بقوة القانون الدولي وميزان القوى الأميركي.