رغم أنه حدث يتكرّر، ولا يمرّ عام إلا ويُثار، فإنّ الدعوة إلى حصر صلاحيات المحكمة العسكرية بمخالفات العسكريين، تبقى قائمة وضرورية، ويجب أن تكون مستقبلاً جزءاً من أي عملية إصلاح للقضاء.
ذلك، أنه بدلاً من أن تثبت هذه المحكمة جدواها باحترام الأصول، تراها تجدّد البرهان على تحوّلها أداةً سياسية، تارة تُشهَر في وجه فرقاء سياسيين معارضين، وطوراً تبعث برسائل إلى المجتمع الدولي، هذا إذا استثنينا مداهنة الأميركيين بإطلاق العميل عامر فاخوري، من غير أن يعرف «الشعب اللبناني» الذي تحكم باسمه «الأسباب الموجبة»، ولا الأثمان التي حصلت عليها الدولة لو كان هناك Raison d’état.
ما كشفته «نداء الوطن» عن إطلاق المحكمة العسكرية المتهم بقتل الجندي الإيرلندي في حادثة كانون الأول الماضي في العاقبية قرب صيدا لم يشكّل مفاجأة كبرى نظراً إلى إصدار المحكمة نفسها سابقاً قرارات وأحكاماً تعاملت مع جرائم خطيرة بأسلوب يجافي الأصول القانونية.
لا بأس هنا من تذكُّر عبارات فاروق الشرع المأثورة لدى سؤاله عن خطف أجانب أو حادث كبير: مَن المستفيد؟ ولماذا في هذا التوقيت؟ وفي حين أن استفهامات وزير الخارجية السوري السابق كانت تضمر الرياء والخبث، فإننا نستفيد من ذكراها السيئة لنسأل الأسئلة نفسها بصدق وشفافية: لمصلحة مَنْ أُطلِق محمد عيّاد؟ ولماذا تركته المحكمة العسكرية في عزّ الجدل حول تطبيق القرار1701، وقبل أسبوع بالتمام من جلسة مجلس الأمن لمناقشته في نيويورك؟
لا مبرّر للقفازات. المحكمة العسكرية شديدة الالتصاق بـ«حزب الله»، والإفراج عن عيّاد لا تبرّره حجّة تردّي وضعه الصحّي. فلو صحّ ذلك – وهو سيبقى مدار شكّ ما دام هناك خبراء يحمّلون ضمائرهم وأطباء شرعيون يتراكم الغبار على تقاريرهم – فإنه لا يأخذ بمبدأ المساواة كون العشرات يقبعون مع أمراضهم المستعصية في السجن منذ سنين بلا محاكمات، من غير أن تنطق المحكمة العسكرية بتجريم أو تبرئة أو بكلام فصل.
إذا لم نكن سُذّجاً، فإنّ هناك أكثر من قطبة مخفية وظاهرة. الإفراج يتحدّى في توقيته الأمم المتحدة التي تعاني استحالة تطبيق القرار الدولي في ظل «مشاغلات» الخط الأزرق. وهو عجز لا يشبه، لا الفشل في منع انتهاك إسرائيل الأجواء اللبنانية آلاف المرّات، ولا ذاك المرافق لعمل دورياتها اليومي في القرى والبلدات الجنوبية المشمولة بالقرار. هو عجز على صفيح ساخن يقضم ما تبقى من هيبة القرار فتتآكل معه شرعيتان دفع لبنان كله الدم والمال للحفاظ عليهما. الشرعية الدولية التي تمثلت بالقرار 1701، وشرعية الدولة ورمزها الجيش اللبناني.
منذ انتهت حرب تموز 2006 لم تتوقف المطبّات. فبين «الأهالي» من هنا، وثلاثية «شعب جيش مقاومة» من هناك دخل القرار الدولي، بالتوازي مع مؤسسات الدولة كلها، في حال شلل، بل انهيار. واليوم في ظل غياب الدولة كلياً عن قرار السلم والحرب ودخول «قسَّام لبنان» وتنويعة تنظيمات أصولية المسرح الجنوبي المشتعل، يكاد الـ1701 يعاني النزع الأخير. إزاء ذلك، واجب اللبنانيين الحريصين على إعادة بناء الدولة وأمان شعبها التنبّه إلى شبهة انقلاب على القرار الدولي بالتوازي مع تعميم الفراغ في المؤسسات.
أليس من مصلحة لبنان العليا المطالبة بتوسيع عمل «اليونيفيل» بدلاً من السعي الحثيث إلى تهشيم فاعليتها؟