Site icon IMLebanon

“لبنان الضفة” ضدّ “لبنان غزة”

 

 

لا تملك السلطة الفلسطينية أي نفوذ في غزة. ولذلك، عندما تفاوضها القوى العربية والدولية، باعتبارها ممثلاً شرعياً للفلسطينيين، تفشل المفاوضات. وصاحب القرار الوحيد هناك، حتى الآن، هو «حماس».

طبعاً، هناك احتمال أن تُكلّف «حماس» «السلطة» خوض المفاوضات نيابة عنها، في اعتبارها طرفاً مقبولاً عربياً ودولياً، إذا اضطرت إلى ذلك. أو ربما ينشأ وفد فلسطيني مشترك يتولّى التفاوض. لكن كل هذه الخيارات تعترضها عقبات أبرزها انعدام الثقة بين الطرفين الفلسطينيين والتدخّلات الخارجية في الشأن الفلسطيني، كما هي حال اللبنانيين.

 

واقعياً، الفلسطينيون منقسمون بين سلطتين، إحداهما لغزة والأخرى للضفة الغربية. وكل طرف منهما يعتبر نفسه الممثل الشرعي للفلسطينيين، ويعتبر أنّ الآخر هو المسؤول عن بلوغ الوضع الفلسطيني هذا المستوى من التردّي:

 

«حماس» ترى أنّ نهج حركة «فتح» «الانهزامي» منذ أوسلو أوصل الفلسطينيين إلى حدّ الاستسلام. وأما «فتح» فتنطلق من تجربة كفاح مسلح دامت عقوداً لتعلن أنّ مسار أوسلو هو الخيار الأفضل لقطف ثمار هذا الكفاح. والدليل هو أنّ تجربة «حماس» في غزة أوصلتها اليوم إلى ما يقارب الدمار الشامل والتهجير.

 

بالتأكيد، هناك اقتناع فلسطيني جامع بأنّ إسرائيل تتحايل وتماطل وتكسب الوقت من أجل توسيع المستوطنات في الضفة وغزة والاستفراد بالقدس. ولكن، على رغم من ذلك، ما زالت «فتح» تعتقد أنّ المسار السياسي هو الخيار الأفضل. ويريحها لو أن تنجح «حماس» في انتزاع مكتسبات من إسرائيل، لكنها تشك في إمكان حصول ذلك بالحرب الدائرة، والدليل هو النتائج التي وصلت إليها حتى اليوم.

 

هذه الثنائية القائمة داخل المجتمع الفلسطيني، كأمر واقع، بين فريق يمتلك الشرعية التمثيلية المقبولة عربياً ودولياً وآخر يمتلك السلاح، موجودة أيضاً في لبنان كأمر واقع، مع بعض الاختلاف في طبيعة العلاقة بين الفريقين.

 

في لبنان، «حزب الله» يمتلك السلاح، وبه يقاتل إسرائيل في الجنوب بمبادرة منه، ومن دون التنسيق مع السلطة المركزية. وأما الجيش اللبناني و»اليونيفيل» هناك فدورهما في الخلفية. ولذلك، عندما يأتي الوسطاء العرب والدوليون إلى بيروت، لمفاوضة الحكومة اللبنانية، فإنّهم عملياً يفاوضون «حزب الله»، لأنّ السلطة المركزية لا دور لها إطلاقاً في مسألة الحرب والسلم والترتيبات في الجنوب.

 

الفارق بين لبنان والمناطق الفلسطينية هو أنّ «حزب الله» هو جزء من السلطة المركزية، بل هو صاحب القرار الأكبر فيها، كما أنّه يتفرّد بقرار الحرب والسلم في الجنوب وفي إبرام أو عدم إبرام أي اتفاق للترسيم أو للترتيبات الأمنية، في البر كما في البحر. ويعترف أركان السلطتين التنفيذية والتشريعية في لبنان بأنّهم يكتفون بنقل الرسائل بين الوسطاء و»الحزب».

 

إذا لم تتوقف الحرب في غزة قريباً، وأصرّ بنيامين نتنياهو على الحسم هناك، فإنّ «حماس» تقترب من خطر كبير، لأنّها على وشك أن تفقد الأرض، أي غزة كلها، وفق ما يخطط نتنياهو، ولو استغرق الوصول إلى ذلك أشهراً أو عاماً أو اثنين. وإذا تلاشت قوة «حماس»، فسيتاح للقوى العربية والدولية أن تبرم اتفاقاً حول غزة مع السلطة الفلسطينية. لكن تطبيقه وتحويل غزة إلى نموذج الضفة الغربية تماماً يتطلبان أن تُهزم «حماس» كلياً، وأن تفقد تأثيرها داخل المجتمع في غزة، فيما هي اليوم تحظى بتأييد الغالبية الشعبية.

 

أما في لبنان، فالفارق هو أنّ الانشقاق داخل المجتمع يتخذ طابعاً طائفياً: الفريق الشيعي اختار اليوم أن يقاتل على الحدود الجنوبية، دعماً لـ»حماس» في غزة، فيما غالبية السنّة والمسيحيين والدروز يريدون النأي بالنفس عن الحرب هناك، أياً كانت الذرائع المرفوعة. ولكن لا فاعلية لاعتراضهم لأنّ القرار في الجنوب ليس لهم ولا للسلطة المركزية، كما هي حال غزة خارج قرار السلطة الفلسطينية.

 

ويحاول «الحزب» تجاوز الطابع الطائفي لهذا الانشقاق باستمالة قوى من الطوائف الأخرى. ومعلوم أنّ «الجماعة الإسلامية» تشارك عملياً في العمليات على الحدود، في موازاة «حزب الله»، وقد خسرت أخيراً 3 من عناصرها. وكان النائب بلال عبد الله، عضو كتلة «اللقاء الديموقراطي»، وجّه تعزية بأحد هؤلاء، من أبناء إقليم الخروب، أعلن فيها التأييد لما تقوم به «الجماعة» وذراعها العسكرية «قوات الفجر». وثمة من يسأل عن خلفيات هذا الموقف: هل هو مجرد تعبير عن التعاطف الوجداني، أم هو يحمل في طياته مغزى سياسياً من جانب جنبلاط؟

 

في أي حال، يرى «حزب الله» أنّ استمراره في «مشاغلة» إسرائيل، دعماً لغزة، هو أمر غير قابل للنقاش، فيما خصومه من الطوائف الأخرى يرون أنّ «الحزب» يكّبد البلد كلفة باهظة ويغامر بمصيره، من دون أن يقدّم إلى «حماس» أي فائدة تُذكر.

هذا الانقسام اللبناني، الذي يشبه إلى حدّ بعيد، الانقسام القائم بين حركتي «حماس» و»فتح»، يجعل لبنان في وضعية صدام داخلي، سياسي على الأقل، كما هي حال الفلسطينيين. لكن الطابع الطائفي الذي يرتديه النزاع في لبنان ينذر بأخطار أكبر. فقد تُقرّر جماعات طائفية أن تتنصل من مسؤولية ما يجري على الحدود، لئلا تلحق الخسائر بمناطقها وتدفع ثمن حرب ترفضها أساساً. وهذا ما سيكرّس التشرذم السياسي والنفسي في لبنان، كما هو حاصل في فلسطين وعدد من بلدان الشرق الأوسط التي شهدت حروباً أهلية ما زالت مفاعيلها مستمرة، وستبقى لسنوات طويلة.