يولد تصاعد المواقف والممارسات العنصرية التي تستهدف اللاجئين السوريين في لبنان، حيرة في كيفية التعامل معها ومنعها من إلحاق مزيد من الضرر بمستقبل اللبنانيين ومصالحهم ووعيهم.
جانب من الحيرة هذه يتعلق بما قد يعتبره معارضو الانقضاض اليومي على اللاجئين، ترفعاً ضرورياً عن الانزلاق إلى تراشق مع قوى تملك من السلطة والغطرسة – ناهيك عن الجهل – ما سيصيب حتماً كل ناقد للعنصرية اللبنانية برذاذ من أذى معنوي أو مادي. إضافة إلى الاعتقاد أن آفاق كل سجال مع عنصريين يفتخرون على شاشات التلفزة بصفتهم هذه، مسدودة وغير قابلة للاختراق، في ظل تقوقع «الجماهير» اللبنانية ضمن شرانقها الطائفية، وصمّها الآذان عن أي نغمة لا تلائم المقام الذي يُطرِبها.
أما الموقف الأعمق دلالة فهو الذي يرى أن كل رد على السعار العنصري الحالي سيسقط، لا محالة، في الفخ الطائفي، وسنعود إلى حالة من المواجهة العقيمة بين نزعتين تتساويان في طائفيتيهما؛ الأولى مسيحية تتوسل الحماية الشيعية لترويج خطاب الذعر الديموغرافي والتميز الجيني الذي يسوّغ كل خطاب عنصري، ويبرر المساعي إلى كسر التسوية السياسية التي أقرها اتفاق الطائف (1989)، والثانية، مُسلمة سنيّة متلعثمة ومرتبكة، بين التأكيد على الانتماء إلى وطنية لبنانية هزيلة، والانخراط، بالتالي، في الحملة على اللاجئين، وبين مشاعر التضامن المذهبي مع اللاجئين واستعادة نتف من خطاب المرحلة الأولى من الثورة السورية، وشذرات من حطام مقولات فريق «14 آذار» المندثر، في الوقت الذي يتعرض فيه الناشطون في الدفاع عن اللاجئين إلى الاغتيال الغامض، على نحو ما جرى في بلدة شبعا.
ولا تفتقر الموجة الحالية من الممارسات والمواقف العنصرية إلى دوافع سياسية، تجد في اللاجئين كبش فداء للفشل الذريع الذي مُني به العهد الحالي، وعجزه عن تحقيق أي من وعوده البراقة التي قطعها، فكان المخرج من هذا المأزق تجييش الجمهور الطائفي المستقوي باختلال الموازين الداخلية، ودفعه إلى المحال والورش الصغيرة التي يعمل فيها سوريون لطردهم من وظائفهم، في ظاهرة لا تقل عفناً عن اعتداءات النازيين الجدد وحليقي الرؤوس على المهاجرين في أوروبا، ما يعيد إلى الذهن ليس فقط المد الشعبوي الحالي؛ بل أيضاً فترة الثلاثينات من القرن الماضي، عندما ظهر كل اختلاف بمظهر المرض الذي يتعين استئصاله.
وتبلغ الدعوة إلى الترفع ذروتها عند فكرة أن الرد على آراء العنصريين وتفكيك خطابهم وإظهار زيفه وتهافته، لا يشكل معركة فكرية تستحق أن تخاض، لعدم انطوائها على مضمون معرفي جديد. شيء مشابه قاله الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك، عندما اعتبر أن ما من شيء مهم في الثورة السورية؛ لأنها تدور بين نظام ديكتاتوري وقوى دينية متخلفة، ولا تقدم غير معاناة إنسانية من دون أي مضمون سياسي.
الجانب الآخر من الحيرة يتأسس على معنى الانخراط في السجال العام ووظيفته، ليس فقط كانعكاس لخطاب الجماعة والإعلان عن هويتها وشحذ عصبيتها مقابل العصبيات المعادية وعلى الضد منها؛ بل خصوصاً كدفاع عن المجال العام، والحيلولة دون طيه تحت إبط العنصريين الشوفينيين والاستيلاء عليه نهائياً، بعد انهيار القوى التي ادّعت الدفاع عن قيم الحرية والسيادة والاستقلال.
تفنيد مقولات التفوق الجيني والاستعلاء الطبقي والطائفي ودحضها؛ بل والسخرية – وهي تدعو إلى السخرية فعلاً – من ضحالتها، وانعدام مخيلة أصحابها وفراغ ادعاءاتهم، يبدو مهمة يومية ضرورية للحفاظ على المواقع الأخيرة لحرية الرأي والتعبير في لبنان، من جهة، ومنع تحويل الأنظار عن الأزمة البنيوية التي تعصف بالدولة اللبنانية ونظامها السياسي، وتحميل اللاجئين السوريين مسؤولية تشظي المجتمع والدولة. ولا ينفي ذلك حجم مشكلة اللاجئين، على ما بات معروفاً. لكن حلول هذه المشكلة لن تتم داخل الأراضي اللبنانية فقط، ذاك أنها مشكلة متعددة الأبعاد، يتعمد العنصريون اللبنانيون إغفال الحقيقة البسيطة فيها، وهي أن النظام السوري هو المسبب الأول لكارثة اللجوء، وعليه أن يجد حلاً لها بالتعاون مع المجتمع الدولي.
ولا ريب في أن المهمة هذه محض دفاعية، في ظل هجوم كاسح للمستثمرين في النعرات الطائفية والمذهبية، والتعبئة الشاملة لوسائل إعلام وسياسيين لحصر كل الكلام المتداول اليوم في لبنان بمسألة اللاجئين. ولعل ثمة فائدة في فهم أسلوب إدارة المعسكر العنصري الطائفي للحملة الحالية ووظيفتها في مشروعه السياسي – السلطوي، أي بكلمات ثانية، إصراره على المضي في هذا المسار مهما كلف الأمر، ومن دون اكتراث لردات الفعل بسبب ارتباط هذا المشروع بطموحات شخصية لبعض المتسلقين السياسيين. لكن الفائدة الأكبر تكمن في تجميع المتضررين من تدمير الحيز المشترك والعام، ليس فقط للتعبير عن التضامن الإنساني والأخلاقي مع اللاجئين؛ بل أيضاً وربما خصوصاً للحفاظ على بقية من آدمية اللبنانيين.