ليس من السهل الحكم على نتائج زيارة بنيامين نتنياهو لواشنطن قبل ان تتوافر المعلومات الدقيقة التي انتهت إليها لقاءاته. ولكن ما هو واضح حتى اللحظة انّ اللقاء الذي جَمعه بالرئيس جو بايدن ونائبته كامالا هاريس أبطلَ كثيرا مما بني على خطابه أمام الكونغرس. وإن كانت البوادر الأولى قد توقفت عند حجم الغضب الاسرائيلي على ما تسرّب منهما على ان تتكفّل الايام المقبلة بما تبقّى. وهذه هي المؤشرات.
يعترف أحد الديبلوماسيين المقيمين في واشنطن أنه كان من الحكمة النادرة التي اتقنها الديمقراطيون ان يؤجّل كل من بايدن وهاريس لقاءهما مع نتنياهو الى ما بعد «الهمروجة» التي شهدها الكونغرس الاميركي، وما رافقَ الدقائق الخمسين من خطابه من مظاهر الترحيب التي أعقبت ما رافق استقباله من أجواء التحدي المبالَغ فيه الى ما لم يحصل من قبل حتى في زيارته الشبيهة في شكلها وتوقيتها وأسبابها عام 2015، والتي فسّرت يومها في مواجهة الرئيس الديموقراطي باراك اوباما ونائبه الرئيس الحالي بايدن الذي قاطعَ ذلك الخطاب. وهو ما فسّر ترجمة لغضب الاكثرية الجمهورية في مجلس النواب ومعها أقليتهم في مجلس الشيوخ، تجاه بايدن وقادة الاقلية الديموقراطية في الاول واكثريتهم في الثاني. وما سمح بتظهير هذه الصورة حجم المقاطعة الديموقراطية للخطاب، بحيث تقدمت رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي المقاطعين ومعها هاريس بما لهما من دور وما تمثّلانه من لائحة الرموز المشرعين الذين سجلوا موقفا سلبيا متقدما من الزيارة.
ولئلّا ينسى البعض، فقد كانت مواجهة العام 2015 السابقة بين نتنياهو والادارة الديموقراطية مبنية في حينه على رفضه ما تَم التوصّل إليه في شأن «البرنامج النووي الايراني» الذي تم توقيعه بعد مفاوضات ماراثونية صعبة ومعقدة دامت 18 شهرا، في 4 نيسان من ذلك العام في مدينة لوزان السويسرية بين إيران وممثلي مجموعة الـ «5+1» المكوّنة من الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي، الولايات المتحدة، روسيا، الصين، المملكة المتحدة وفرنسا، بالإضافة إلى ألمانيا. وأقرّ في مجلس الأمن الدولي في 20 تموز 2015 بموجب قرار حمل الرقم 2231، موكلاً أمر التحقق من امتثال إيران لأحكام ما عُرف في حينه في احد ملحقات الاتفاقية بـ«خطة العمل الشاملة المشتركة» إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي عليها التثبت من التزامات إيران تجاه مجموعة الدول والمنظمة الدولية والعالم.
وان استحضرت ايران وأذرعها في أسباب الازمة الحالية بين نتنياهو والادارة الاميركية، فقد أحيَت التذكير بأحداث العام 2015 بانسياب، علماً انّ هناك اسبابا اخرى اضافية تتجلى في حجم الملاحظات الديموقراطية القاسية ونوعيتها تجاه تصرفات نتنياهو شخصياً، ومعه بعض اعضاء حكومته المتشددين المُعرّضين لعقوبات غير مسبوقة لم تطاول اي مسؤول اسرائيلي من قبل. كما بالنسبة الى ادانة ارتكابات الجيش في قطاع غزة والضفة الغربية وردات الفعل الرافضة «خطة بايدن» لإنهاء الحرب كما ترجمها قرار مجلس الأمن في العاشر من حزيران الماضي. ذلك ان ما شهدته القاعة الكبرى للكونغرس التي جمعت أعضاء مجلسي النواب والشيوخ له سقوفه المحددة في ظل بقاء بايدن في البيت الأبيض والظروف التي استجدّت بترشيح هاريس، وما تسببت به من متغيرات لم تكن متوقعة في مجرى الانتخابات واستطلاعات الرأي الجارية في شكل شبه يومي، بفعل التأييد الواسع الذي حَظيت به هاريس وآخرها موقف الرئيس السابق باراك أوباما الذي تريّثَ في إعلانه بحجة عدم التدخل في الشؤون الحزبية الداخلية لنصرة فريق على آخر من جهة والاشارات المتلاحقة التي طالبت بترشيح زوجته ميشال بدلاً من كامالا.
على هذه الخلفيات بنى الديبلوماسي العتيق كثيراً من الرهانات على أهمية الاطلاع على التفاصيل غير المتاحة حتى اللحظة لما انتهت إليه لقاءات نتنياهو مع كل من بايدن وهاريس وترامب قبل ايّ حكم على نتائج هذه الزيارة الحافلة بالمفاجآت. فإلى مجموعة هذه اللقاءات الشخصية ينبغي التريث حتى معرفة نتائج المحادثات التي أجراها الفريق العسكري والديبلوماسي الذي رافقَ نتنياهو، والتي مهّدت للقاءاته، ومنها في مجلس الامن القومي والبنتاغون وغيرهما من مراكز القرار الاميركي ومديري الحملات الانتخابية. وان وصلنا الى هذه المحطة، علينا عدم تجاهل أمر مهم، فالرئيس بايدن ما زال رئيساً فاعلاً يُدير سياسة بلاده ويرسم لها الخطوط المختلفة بما فيها الخطوط الحمر. فالحديث عن شلل الادارة الحالية ودخولها مرحلة من «الكوما السياسية» عشية المعركة الانتخابية ليس دقيقاً. ذلك انّ امامها مهلة اولى تنتهي في 5 تشرين الثاني المقبل تاريخ فتح صناديق الاقتراع، وأخرى قابلة للتمديد وقد لا تنتهي بانتهاء الاشهر الستة من ولايته في 20 كانون الثاني المقبل. فهي مرشحة للاستمرار لولاية كاملة إن توّجت هاريس بفوزها ما استعادته كمرشحة رئاسية من ثقة الرأي العام الأميركي وصولاً الى بداية انقلاب قد يتحقق لمصلحتها في مواجهة ترامب.
وعلى هذه المؤشرات بنيت التقديرات بأنّ مرحلة «النشوة» التي عاشها نتنياهو تحت قبة الكونغرس قد اهتزت وتراجعت سريعاً، ولو بنحو محدود، عقب اللقاءين اللذين جمعاه ببايدن وهاريس معاً. فقبل دخوله الى البيت الابيض بدقائق معدودة للقاء بايدن، سَبَقه الناطق الرسمي باسمه ببيان عدّد فيه ما هو مطلوب منه لجهة العمل بسرعة لالتزام خطة بايدن لوقف النار وترتيب التفاهمات الخاصة بتبادل الاسرى والمعتقلين مع القيادات الفلسطينية.
وقد كان ذلك قبل ان ينتهي لقاءه بهاريس التي عبّرت عن «قلقها العميق» إزاء عدد الضحايا في غزة، مضيفة «لا يمكننا أن نغضّ الطرف عن هذه المآسي. ولا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بأن نصبح مخدّرين تجاه المعاناة، وأنا لن أصمت إزاء ذلك. ولذا حان الوقت لتتوقف الحرب في غزة، وانّ هذا هو الوقت المناسب لإتمام الصفقة».
على هذه الخلفيات، فهم حجم الغضب الذي عبّر عنه نتنياهو ومدى انزعاجه مما حصل، وهو وإن استوعب ملاحظات بايدن الذي كان من المحتمل عدم الاجتماع به لو بقي تحت تأثير الجائحة، فإنه لم يتوقع ان يسمع من المرشحة الرئاسية ما سمعه رغم معرفته بمواقف افراد من عائلتها الذين جمعوا التبرعات للفلسطينيين إبّان الحرب على غزة بعد ادانة قتل الأطفال وضرب مراكز الإيواء وأفراد الجمعيات الإنسانية».
وعليه، وإن كان نتنياهو قد اعتبر «ان مثل هذه المواقف مسيئة لعملية السلام والصفقة في حد ذاتها» من دون ان يُعلي الصوت، فقد تولى الهجوم على هاريس، بالانابة عنه كلّاً من الوزيرين المهددين بالعقوبات الأميركية: وزير المال بتسلئيل سموتريتش والأمن القومي إيتمار بن غفير، على خلفية تصريحاتها. فلفتَ الاول الى ان «هاريس كشفت للعالم بأسره عن السبب الحقيقي وراء الصفقة ـ الاستسلام لزعيم حركة «حماس» في قطاع غزة ووقف الحرب بطريقة تسمح لحماس بإعادة التأهيل، والتخلي عن معظم الأسرى. يجب أن لا نَقع في هذا الفخ». فيما عاجَلَها الثاني بقوله متوجّهاً اليها عبر منصة «أكس»: «لن يكون هناك وقف للحرب، سيدتي المرشحة».
لقد بات واضحاً انّ لقاءات نتنياهو مع بايدن وهاريس لم تكن بحجم ما أحدثَه خطابه امام الكونغرس من ضجة، وقد أسقطت هذه اللقاءات كثيراً من عناصر القوة التي وفّرها هذا الخطاب، ولربما أفرَغَت ردّات الفِعل على خطابه من نتائجها في انتظار ان تثبت الايام المقبلة صحة هذه المعادلة من عدمها.