يبدو أن الزيارة التاريخية للملك سلمان بن عبد العزيز لمصر، لن تقتصر نتائجها ومفاعيلها، على «النقلة النوعية» التي تحققت على مستوى العلاقات الاستراتيجية بين جناحيّ الأمة، بل ستصل بمداها الواسع إلى إحداث تغييرات في الوضعين العربي والإسلامي، تعيد الاعتبار للنظام العربي، وتجدّد مفاهيم التضامن الإسلامي، في مواجهة التحديات التي تواجهها الأمة.
لا نغالي إذا قلنا، أن الاتفاقات والتفاهمات التي انبثقت عن القمة السعودية – المصرية، وضعت حداً قاطعاً لمرحلة التشتت والضياع التي سادت المنطقة العربية في السنوات الأخيرة، وأتاحت المجال لتدخلات خارجية، دولية وإقليمية، هددت استقرار الدول العربية، وعبثت بأمن شعوبها، وأشعلت حروباً عنصرية ومذهبية وطائفية، لتفكيك المجتمعات العربية، وضرب الدولة الوطنية المركزية.
وأسقطت محادثات العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، رهانات الأعداء، وكل المتربصين بالعلاقات الأخوية بين السعودية ومصر، الذين روّجوا لبرودة في التواصل بين الرياض والقاهرة، ولتباينات في المواقف من الملفات المتفجّرة في سوريا واليمن والعراق وليبيا، مع كل ما يعني ذلك من استبعاد لعودة المبادرة إلى القرار العربي، الذي أدى غيابه إلى اشتعال هذه الحرائق في أكثر من دولة عربية.
* * *
المتابع بدقة لوقائع الزيارة التاريخية، ونتائجها غير المسبوقة، يلاحظ مدى الجدية التي أحاطت بمحادثات قطبي الأمة، وما سبقها من إعداد مُكثّف بإشراف الأمير محمّد بن سلمان، ولي ولي العهد السعودي، ورئيس الحكومة المصرية شريف إسماعيل، عبر مجلس التنسيق السعودي – المصري، الذي أنجز في خمسة أشهر، ما عجزت الهيئات المسؤولة في البلدين عن معالجته طوال سنوات.
لعلها من المرّات النادرة التي تخرج فيها نتائج القمة الثنائية عن رتابة البيانات النمطية والمنسقة بعبارات دبلوماسية مبهمة، إلى رسم خريطة استراتيجية للتعاون بين البلدين، حددت معالمها الواقعية سبع عشرة اتفاقية وبروتوكولاً، أعادت العلاقات السعودية – المصرية إلى ذروة مجدها، وأَسّست لبزوغ فجر عربي جديد، يستنهض الطاقات والقدرات العربية، ويضعها جنباً إلى جنب مع تراكم الخبرات، وتجارب الاختصاصات، ليماهي المسيرات الاقتصادية والإنمائية للدول النامية والمتقدمة.
والاتفاق على إقامة «جسر الملك سلمان» يتجاوز برمزيته مسألة الربط بين السعودية ومصر، إلى أهمية إعادة التواصل البري بين طرفي المنطقة العربية في آسيا وأفريقيا، لأول مرّة منذ قيام الدولة الصهيونية على أرض فلسطين، وقطع طرق الإمداد والتنقل بين المشرق العربي ومغربه.
وهذا المشروع الذي يُؤكّد على متانة تجسير العلاقات المصرية السعودية، سيؤدي دوراً مهماً، ليس في تنشيط الحركة الاقتصادية والاستثمارات بين البلدين فقط، بل سيكون حلقة وصل مهمة في مشروع طريق الحرير الذي تنوي الصين تنفيذه بكلفة 570 مليار دولار، لربط قارات العالم القديم: آسيا، أفريقيا، أوروبا، بشبكة مواصلات برّية متطورة، تُسهّل تدفق الحركة البشرية والتجارية بين أكثر من 59 دولة في القارات الثلاث.
أما الاتفاق على تحديد الحدود البحرية بين السعودية ومصر، فقد أبطل مفعول قنبلة موقوتة، كانت تُهدّد العلاقات بين البلدين في أية لحظة، رغم حرص الطرفين على إبقاء هذا الملف الدقيق والحساس، بارداً طوال الفترة السابقة، تجنباً لوقوع أي خلاف حوله.
* * *
واهتمام العاهل السعودي بدعم مشاريع التنمية والتحديث في سيناء، يُؤكّد الحرص السعودي – المصري المشترك على مكافحة الإرهاب، أينما وُجد، ليس بالقوة العسكرية وحدها، كما يحصل في اليمن وسوريا، بل وأيضاً بمكافحة بؤر الفقر والجهل، وتوفير الفرص المناسبة للأجيال الشابة، للحصول على التعليم وإمكانيات العمل والعيش الكريم.
الواقع أن تطوير علاقات التعاون المصري – السعودي، إلى مرحلة التحالف الاستراتيجي القائم على المصالح الاقتصادية المشتركة، وتعاون عسكري فاعل وتنسيق سياسي كامل، من شأنه أن يفتح أبواب التكامل الاقتصادي بين أكبر وأهم دولتين عربيتين، وبروز قوة سياسية واقتصادية ذات مكانة مميزة، إقليمياً ودولياً.
وبخلاف الترويجات المُغرضة، فإن النتائج الباهرة وغير المتوقعة للزيارة التاريخية، والتي هندس مفاصلها الأمير محمّد بن سلمان شخصياً، كانت قائمة على أسس اقتصادية وطنية، وعلمية سليمة، وتراعي مصالح الطرفين، بعيداً عن منطق الإغراء والاستدراج.
لا هبات مالية، ولا مساعدات مجانية، بل استثمارات سعودية، اقتصادية وإنمائية مدروسة، لتحقق للطرفين السعودي والمصري، نتائج وعائدات مجزية، وتساعد على تمتين أواصر التحالف الاستراتيجي بين البلدين، وتساهم في تلبية احتياجات الشعب المصري الشقيق.
فهل تصبح العلاقة السعودية – المصرية نموذجاً لانتشال النظام العربي من التشتت والضياع، وتسريع ولادة الفجر العربي الجديد؟
لقد أمسَكَ الملك سلمان بيد الرئيس السياسي، ومشيا معاً الخطوات الأولى في رحلة الألف ميل.