«اللجنة الوزارية للإصلاحات» فتحت أبواب تعديل نظام التقاعد. الخطوة الأولى كانت في الاستماع إلى عرض وزارة المالية عن الواقع الحالي، على أن يليها النقاش في الاقتراحات العملية. لن يتمكّن أحد من المسّ بحق الموظف في الحصول على معاش تقاعدي، لكن من دون ذلك يتركز البحث في كيفية تخفيف أعباء هذه المعاشات. وهنا يعود النقاش في إلغاء «التدبير رقم 3» في المؤسسات العسكرية والأمنية إلى الواجهة مجدداً، مع اقتراحات بزيادة المحسومات التقاعدية
بالنسبة إلى الحكومة، لم يعد من إصلاح أهم من إصلاح نظام التقاعد! فجأة تبين لها أنه إحدى أهم العقبات التي تقف في طريق خفض عجز الموازنة. وهذا «الإصلاح» لا يعني، على طريقة الرئيس سعد الحريري والوزير جبران باسيل، سوى إلغاء معاش التقاعد واستبداله بتعويض نهاية الخدمة. يدرك الطرفان أن خطوة كهذه لا يمكن أن تمرّ لما تُشكّله من تهديد للمنظومة الاجتماعية الهشّة أصلاً، لكن بحجة الانهيار المرتقب ووجوب إيجاد حلول إنقاذية، يسعى الحريري وباسيل إلى تمرير مشروعهما.
اللافت أن خط الدفاع الأول عن حقوق المتقاعدين سيكون داخل لجنة الإصلاحات نفسها. ليست كل الأطراف مؤيدة لهذا التعديل. بعضها يقف بشراسة ضد المسّ بمعاشات التقاعد. لكن في المقابل، فإن فكرة إجراء تعديلات في نظام التقاعد هي فكرة يعتقد الجميع أن وقتها قد حان، من دون أن يعني ذلك بالضرورة المسّ بجوهر النظام.
من اعتصام العسكريين المتقاعدين أمام مبنى الـTVA أمس احتجاجاً على عدم صرف مستحقّات المتقاعدين حديثاً والسعي للمسّ بنظام التقاعد (مروان طحطح)
في العرض الذي قدمه مستشار وزير المالية طلال فيصل سلمان، الأسبوع المنصرم، طُرحت أفكار أولية للإصلاحات المطلوبة على هذا النظام تم إعدادها بالتعاون مع البنك الدولي. أولى الملاحظات أنه لا يمكن تبني وجهة النظر الداعية إلى استبدال معاش التقاعد بتعويض نهاية، بل على العكس يُتعامل معه كأحد أبسط الحقوق التي وجب تحصينها.
من هذا الباب، أي من باب ضمان استمرار الدولة في تأمين الموارد اللازمة لدفع هذه المعاشات، تنتقل الدراسة إلى الاقتراحات التعديلية للنظام.
بداية لا بد من الإشارة إلى أن الدولة تقتطع من راتب الموظف، منذ لحظة دخوله إلى الملاك وحتى تقاعده، ستة في المئة كمحسومات تقاعدية، هي مساهمته في المعاش التعاقدي، الذي يفترض أن يستكمل بمساهمة رب العمل، أي الدولة في هذه الحالة. عادة في بلدان أخرى، تذهب هذه العائدات إلى صندوق تقاعدي تُنشئه الدولة ويتم استثمار أمواله في السوق المالية، بغية تقليص الفارق بين ما يحصّل من الموظفين وما يدفع من الخزينة. في لبنان، تُسيء الحكومة إدارة الأموال المحصّلة وتتعامل معها كإيرادات للموازنة، ثم تشكو من عدم قدرتها على دفع كلفة معاشات التقاعد! وكأن لا قيمة لما تمّ جمعه من الموظفين على مدى عشرات السنين، ولا قيمة لمبدأ الرعاية الاجتماعية، الذي يُفترض أن يكون أولى واجبات الدولة تجاه المواطنين، بغضّ النظر إن كانوا يعملون في القطاع العام أو الخاص.
لا توارب الحكومة في تحميل مسؤولية العجز إلى القطاع العام. المبالغة في ذلك، توحي أن الهدف الفعلي ليس سوى صرف النظر عن المكمن الحقيقي للعجز، أي خدمة الدين العام. بالنتيجة، صار خنق القطاع العام على سلم أولويات الحكومة. وبعد وقف الترقيات وزيادة سنوات الخدمة وزيادة الاقتطاعات الضريبية على الموظفين والمتقاعدين على السواء، يبدو أن موازنة 2020 ستغزل على المنوال نفسه.
في موازنة 2019، قُدّرت كلفة الرواتب بـ6600 مليار ليرة، فيما بلغت كلفة معاشات التقاعد 3000 مليار ليرة، من ضمنها نحو 450 مليار ليرة تعويضات نهاية الخدمة. ووفق قانون موازنة 2019 قُدّرت الحسومات التقاعدية بنحو 270 مليار ليرة، أي أن الخزينة العامة ستسدد هذا العام نحو 2280 مليار ليرة لمعاشات التقاعد فوق قيمة الحسومات التقاعدية التي تجبيها من الموظفين. وهذا الإنفاق يمكن للحكومة أن تقلصه (لا يجب إلغاؤه انطلاقاً من أن معاشات التقاعد هي واجب على الدولة وحق للموظفين) لو أحسنت إدارة الأموال التي تحصل عليها.
هذا لا يعني أنه لا يجب إصلاح نظام التقاعد المقر في عام 1983، لكن الإصلاح على الطريقة الحكومية، يقود حصراً إلى اقتطاع المزيد من الأموال من الناس، تمهيداً لتغطية عجز الموازنة. حتى الآن لم يتم اتخاذ أي قرار جدي في هذا السياق، لكن من الأفكار التي طُرحت هي العودة لإيجاد حل للتدبير رقم ٣ تحديداً (كل سنة خدمة فعلية للعسكريين تُحتسب ثلاث سنوات).
بالعودة إلى نظام التقاعد، فهو ينص على أن العسكري يمكنه التقاعد بعد ١٨ سنة في الخدمة (زيدت في موازنة 2019 إلى 23 سنة) والمدني يحق له أن يتقاعد بعد 20 سنة خدمة (صارت 25 سنة). كما ينص النظام على أنه يحق للموظف إذا خدم بين الحد الأدنى المطلوب للتقاعد وبين 40 سنة أن يختار بين المعاش التقاعدي وتعويض نهاية الخدمة، أما في حال عمل أكثر من 40 سنة، فيحق له الحصول على الأمرين معاً.
في حالة المدني لا تُثير المسألة أي إشكالية لكن في حالة العسكري، فإن خروجه بعد الحد الأدنى من عدد السنوات المطلوب للتقاعد (أي ١٨ سنة سابقاً) يعني تلقائياً حصوله على تعويض نهاية الخدمة والمعاش التقاعدي معاً، لأن ضرب السنوات الـ١٨ بـ3 (التدبير رقم 3) يسمح بأن يكون مجموع سنوات الخدمة 54 سنة. بينما في حالة المدني، فإن خدمته لـ39 سنة فعلية تجعله لا يحصل على ما حصل عليه العسكري من جراء عمله لـ18 سنة فقط.
عندما طُرحت هذه المعادلة، يؤكد أحد الوزراء، أن الصدمة علت وجوه الحاضرين، معتبراً أنه لا بد من إيجاد حل لها بالقانون. كما يوضح أن ذلك لا يعني تأييد إلغاء التدبير رقم 3، بل يؤكد أنه لا بد من إعطائه لمن يستحق، أي إلى العسكريين الذين يخدمون في مواقع قتالية أو حدودية، يمكن الاتفاق عليها مع قيادة الجيش.
الحكومة تتعامل مع معاشات التقاعد كنفقات تزيد العجز لا كحقوق مُكتسبة
الأمر الثاني، الذي تتطرق إليه الدراسة، هو مسألة الورثة. بعد وفاة الموظف يفترض أن ترثه زوجته، إلا أن الإشكالية تتعلق بالورثة من الأبناء، فالابنة العزباء أو المطلّقة، يحق لها الاستفادة من المعاش التعاقدي بعد وفاة والديها، في حال لم يكن لديها دخل من عمل مسجّل قانوناً. وهذا الأمر يؤدي، بحسب التجربة، إلى انحرافات في التطبيق، كأن لا تسجّل الابنة المتزوجة زواجها. إلا أن الاقتراح يذهب إلى حد إلغاء توريث البنات بدلاً من معالجة التنفيذ الخاطئ.
الحريري يطالب في الورقة التي قدمها إلى مجلس الوزراء برفع الاقتطاع التقاعدي من 6 إلى 10 في المئة. ومع إدراكه أنه يصعب تسويق هذا الاقتراح، يرى آخرون أنه يمكن، بالنظر إلى المعدلات العالمية، زيادته نقطة أو اثنتين.
في الخلاصة، يعتبر العرض المقدم من وزارة المالية أنه لا بد من العمل على تعديل نظام التقاعد، في ٤ نقاط تحديداً: رفع نسبة الاقتطاع التقاعدي، تفعيل صندوق التقاعد واستثمار أمواله أسوة بما يفعل صندوق الضمان الاجتماعي على سبيل المثال، تعديل لائحة المستفيدين من التدبير رقم 3، حصر الإرث بالأزواج.
هل يمر هذا الاقتراح؟ بحسب وزراء في اللجنة فإن تعديل نظام التقاعد صار ملحاً، لكن يبقى الاتفاق على طبيعة هذا التعديل وحدوده، خاصة أن البعض مستعد للجنوح بعيداً في ضرب حقوق المتقاعدين.