Site icon IMLebanon

خلوة الحوار… هل تذكر مجلس شيوخ 1926 ــ 1927

أخذوا على سوريا تعطيلها اتفاق الطائف وتفسيرها إياه بالعصا الأمنية. بعد جلاء جيشها لأكثر من 11 سنة، لم يُرد أيّ من الأفرقاء اللبنانيين تصويب تطبيقه، بل الاستمرار في الأعراف التي درّبتهم دمشق عليها. البارحة، في توقيت غير مناسب، تذكروا

بالتأكيد لم يدخل أي من أقطاب الحوار اليوم الأول من خلوة عين التينة موهوماً بأنه سيخرج ظافراً باتفاق على انتخاب رئيس للجمهورية أو قانون جديد للانتخاب.

إلا أنّ أياً منهم لم يغادر اليوم الثالث من الخلوة موهوماً أيضاً بأن قانوناً للانتخاب خارج القيد الطائفي واستحداث مجلس للشيوخ سيبصران النور في مرحلة يطبق العجز الكامل على كل شأن تقريباً. كلا البندين اللذين أعلنت الخلوة الاتفاق على التحضير لهما تمهيداً لاستكمال أعمالها في 5 أيلول، أشبه بانقلاب على النظام الدستوري بكل ما للكلمة من معنى. بيد أنه «انقلاب شرعي» كون اتفاق الطائف أدرجهما في متنه، ثم أُدمجا في متن الدستور المعدل عام 1990.

لعل العبرة في وصف هذين الإجراءين بـ«الانقلاب» لأن:

أوّلهما، طَرَحَ قانوناً للانتخاب لا مكان فيه للمذاهب، وهي في ذروة استعار غليانها الداخلي (مرة بالاشتباك السنّي ــ الشيعي العائم، وطوراً بشعار الميثاقية الذي يرفعه المسيحيون)، في وقت يتعذر اتفاق الكتل النيابية على آلية التصويت في قانون للانتخاب، نسبي مرة وأكثري مرة أخرى. ومع أن الرئيس نبيه بري يُبرّد مقاربة قانون انتخاب خارج القيد الطائفي بالقول إن تفسيره له، هو أن يكون مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، دونما حصص المذاهب، إلا أن ما نصّ عليه اتفاق الطائف مغاير تماماً: خارج القيد الطائفي يعني أن لا مكان فيه لمناصفة وطوائف ومذاهب، بل يفوز به مَن يفوز من النواب الـ128.

ثانيهما، استحدث مؤسسة دستورية جديدة في حقبة لم يسبق أن شهد لبنان تعثّر مسار مؤسساته الدستورية كلها: لا رئيس للجمهورية بسبب إخفاق البرلمان في الاجتماع للتصويت له، حكومة عاجزة عن العمل بات تأليفها يتطلب 11 شهراً محوطة بفيتوات مذهبية في كل اجتماع تقيّد صلاحيات رئيسها كما صلاحيات مجلس الوزراء، مجلس نيابي يمدد بنفسه لنفسه مرة تلو أخرى ويتذرع بالأسوأ الذي قد يبصره إنسان: لا يريد التفاهم على قانون جديد للانتخاب، في الوقت نفسه ــ هو المؤسسة المشترعة ــ يرفض تطبيق قانون صوّت عليه هو قانون الانتخاب النافذ بحجة افتقاره الى الإنصاف والعدالة والمساواة، ومن ثمّ رفض الذهاب الى انتخابات نيابية تبعاً لهذا القانون.

لم يسبق أن خبرت برلمانات لبنان قانوناً للانتخاب مماثلاً لما نصّ عليه اتفاق الطائف وتبنّاه الدستور، هو قانون انتخاب وطني لا طائفي، إلا أنها في قوانين الانتخاب المتعاقبة منذ عام 1934 ــ أول مرة جُعلت المحافظة التاريخية دائرة انتخابية ــ راعت التوزيع المذهبي من ضمن التوزيع الطائفي، وإن مفتقراً الى المناصفة حتى عام 1991، ووجّهت اهتمامها على الدوام الى عدد المقاعد زيادة أو نقصاناً وتقسيم الدوائر، دونما الخوض مرة في آلية الاقتراع التي ظلت التصويت الأكثري.

ومقدار ما توحي المحاولة المتوخاة هذه التي وضعها اتفاق الطائف في نطاق دفع لبنان الى حقيقة ما نصّ عليه الدستور، وهو الدولة المدنية، سبق لهذا البلد أن اختبر في نظامه الدستوري مجلساً للشيوخ لم يعمّر سوى سنتين (1926 ــ 1927). لم يُعطَ أن يلتئم سوى في دورة أولى وواحدة ما بين عامي 1926 ــ 1927، عقد خلالها خمس جلسات آخرها في 6 تشرين الاول 1927، قبل أن يصير إلى إلغائه عند الورشة الاولى لتعديلات دستور 23 أيار 1926.

في ظل الانتداب الفرنسي نشأت تجربة، للمرة الأولى والأخيرة مذ ذاك، لمجلس شيوخ لبناني من 16 عضواً، سبعة منهم يعيّنهم رئيس الحكومة بعد استطلاع رأي الوزراء، على أن يُنتخب الأعضاء الباقون.

وخلافاً لما ينص عليه اتفاق الطائف والدستور بأن جعل مجلس الشيوخ مؤسسة دستورية مستقلة في ذاتها وصلاحياتها، على أن التجربة السابقة أحالته توأم مجلس النواب بحيث يكوّنان السلطة المشترعة عندما يلتئمان معاً، أو ينعقد كل منهما منفرداً في العقود العادية والاستثنائية. يكادان يتشابهان في معظم صلاحياتهما الاشتراعية ــ بل هي نفسها ــ على نحو يوحي بأن كلاً منهما يكمل الآخر: مواعيد الانعقاد، النصاب القانوني للالتئام والتصويت فضلاً عن التصويت الشفوي والاقتراع السري والمناداة بالاسماء، الجلسات السرية والعلنية، حصانة العضو وملاحقته، آلية طرح الثقة بالحكومة، ملء الشغور ومواعيد تجديد الهيئة المشترعة المزدوجة. يشكلان معاً البرلمان عندما يلتئمان، صورة منسوخة عن البرلمان الفرنسي، إذ يجمع الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ.

لم يُتَح لمجلس الشيوخ سوى أن يرأسه رئيس واحد في المدة الوجيزة من عمره. سنّي هو مفتي طرابلس محمد الجسر، مثّل صعوده في أقل من سنتين سبباً حمله على الترشح لرئاسة الجمهورية بعد عقد من الزمن ــ وكان مجلس الشيوخ ألغي ــ في أول اشتباك بين الزعماء الموارنة على رئاسة الجمهورية، بين إميل إده وبشارة الخوري. في 17 تشرين الاول 1927 انعقد المجمع النيابي اللبناني وعدّل جملة أحكام دستورية، وألغى سواها، من بينها مجلس الشيوخ، كي يحصر السلطة المشترعة بمجلس النواب.

لم يُمنح أول مجلس للشيوخ فرصة إنضاج تجربة استمرت بضعة أشهر، بعدما أخفق مغزى وضع الهيئة المشترعة في مؤسستين دستوريتين دونما تمييز إحداهما عن الاخرى في الصلاحيات. فإذاً هما اثنان في واحد.

ما يناقش اليوم عن مجلس للشيوخ قال به اتفاق الطائف وبات بنداً ملزماً في الدستور، وهو تحديد مهماته قبل صوغ مسودته، والجزم برئيس درزي له معروف سلفاً ــ يكون الرئيس الرابع في هرم السلطات الدستورية ــ قبل انتخاب المجلس وتعيين صلاحياته وتمييز دوره عن مجلس النواب. بات مرادف قانون انتخاب وطني خارج القيد الطائفي، والمبرر الوحيد للمضي بالقانون الأرثوذكسي على نحو يمكّن كل طائفة من انتخاب أعضائها. إلا أن الأهم في ما يشاع أنه نطاق عمله، هو التناقض الناشب باكراً حياله: بينما يقول اتفاق الطائف والدستور بأن «صلاحياته تنحصر في القضايا المصيرية»، يُنسب الى أقطاب الحوار تعريف مختلف تماماً لصلاحياته بأنها مرتبطة حصراً بالطوائف اللبنانية في نطاق شؤونها. بذلك يمسي صورة مطابقة للصلاحية المنوطة برؤساء الطوائف اللبنانية في المادة 19 من الدستور حيال علاقتها بالمجلس الدستوري.