في الأساس، لم يخرج اللبنانيون من منازلهم تأييداً للعماد ميشال عون إلا لتعبهم من المحاور وخطوط التماس والكانتون البشيريّ الإلغائيّ الضيق الذي عاد إليه الوزير جبران باسيل، مناقضاً ترداد الجنرال أن البلد أصغر من أن يقسَّم وأكبر من أن يُبلَع
ينسى الوزير جبران باسيل بين وقت وآخر أنه رئيس حزب التيار الوطني الحر، ويعتقد أنه زعيم أحد محاور الحرب الأهلية أو رئيس حركة لبناننا التي أسسها النائب سامي الجميّل أيام مراهقته السياسية، ويعبّر عن «استصعابه العيش» مع «هذا النوع من التهميش»، مؤكداً أن «المظلومية تبيح كل شيء»، بحسب ما قال بعد اجتماع تكتل التغيير والإصلاح الأسبوع الماضي. وبعيداً عن دبلوماسية «الرئيس» وعدم تسميته الأشياء بأسمائها، ينشط عدة «باسيليين» في مواكبته افتراضياً بالتعبير عن وجوب إعادة النظر في الوطن أو تغييره إن كان «الإصلاح» مستحيلاً. وهو ما يتناغم مع قول أيتام اليمين اللبنانيّ الذي خسر جميع حروبه إن بشير الجميّل اختار أن يكون رئيس كل لبنان حين خُيِّر بين أن يكون رئيساً للكانتون المسيحي أو كل لبنان، فيما تنعكس الآية اليوم، فيقول البعض إن استحالة تعيين قائد جيش ماروني جديد لكل لبنان يجب أن تدفع إلى تعيين قائد خاص بجيش ماروني جديد (يكون كل عناصره من الضباط) واستحالة انتخاب العماد ميشال عون رئيساً لكل لبنان يجب أن تدفع إلى تعيينه رئيساً لجمهورية الرابية ومعراب.
وفي ظل انحصار التفاعل مع كلام باسيل بدائرة ضيقة من المحازبين، لا بدّ من توضيح بضع نقاط قبل تسمم رؤوس جديدة بالطرح القواتيّ ــ الإسرائيليّ الميت القديم:
في الحرب الأهلية كان ثمة خطوط تماس تمزق الخريطة اللبنانية وجرائم حرب ودبابات إسرائيلية وتهجير «طويل عريض» وتمويل دولي لأمراء الحرب وأمر واقع اقتصادي واجتماعي وتربوي وخدماتي، وكان التقسيم جزءاً من بعض الحلول المتداولة. أما اليوم، فلا دبابات ولا جرافات ولا اهتمام دولي من قريب أو بعيد بإعادة رسم الخريطة اللبنانية. اليوم ثمة دستور وقوانين، ولا يمكن بطبيعة الحال مَن يعجز عن توفير الأكثرية اللازمة لتغيير قانون الانتخابات أو تعيين قائد جديد للجيش أو محاسبة مدير عام أن يؤمن الأكثرية النيابية اللازمة لتعديل الدستور، سواء لتحديد ماهية «الميثاقية» في نص واضح أو قوننة الفيدرالية. تيار المستقبل مثلاً لا يوافق على إمرار أي قانون انتخابات يخسّره نائباً واحداً من كتلته النيابية التي تتوزع مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، فكيف يوافق على «تشليحه» نصف النواب؟ «المظلومية تبيح كل شيء». إلا أن من يرفضون إعطاء باسيل كرسياً صغيراً هنا أو هناك لن يعطوه نصف البلد أو أكثر لمجرد أن يلوّح لهم بإصبعه أو يتظاهر مع بضعة آلاف أو حتى مئات الآلاف.
مشروع الفيدرالية انتهى قبل اغتيال بشير الجميّل والتلويح بها مراهقة سياسية
ولعل باسيل لا يعلم إلا أن الآلاف استشهدوا من أجل وحدة هذا البلد ومنع تقسيمه وهم يواصلون التأكيد في الميادين السورية أن «إسقاط مشاريع التقسيم» أولوية. ولا شك بالتالي في أن الخيارات المتوافرة أمام باسيل قليلة جداً على هذا الصعيد، ولعل ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة إن كان يعتقد أن وضع المسيحيين اليوم عسكرياً واقتصادياً ودولياً أفضل مما كان عليه قبل أربعة عقود، وبوسعه شخصياً أن يحقق ما عجز بشير الجميّل عنه. أما من يواصلون التشدق بالتجربة الكردية، معتقدين أن بوسع الموارنة أن يكونوا أكراد لبنان، فلا يفقهون شيئاً، لا في الجغرافيا ولا في التاريخ ولا في طبيعة الشعب الكردي. فالمقارنة المتأنية تؤكد أن أحداً في العالم لا ينظر إلى الموارنة كشريك استراتيجي في مسألة ما، وآخر من فكر في الموارنة كـ»شريك» كان الإسرائيليين الذين لم يصدقوا كيف عادوا إلى كيانهم دون تنسيق حتى مع شركائهم المفترضين. أما «الحلف» الكردي – الأميركي فثابت ووثيق. ومقارنة بالأكراد لا يملك الموارنة موارد طبيعية يمكن أن تثير اهتمام أحد ما لم يكن تفاح كفرذبيان والعاقورة وتنورين يحتوي يورانيوم مخصباً؛ ولا موقعهم الجغرافي مميز حقاً، فيما الأكراد ينتشرون في منطقة تمثل واسطة عقد أربع دول كبرى في الإقليم: إيران والعراق وسوريا وتركيا. وفي مقابل «إجماع» نسبيّ بين المكونات السياسية الكردية على «القضية القومية»، يزداد مسيحيو لبنان تشتتاً عند كل منعطف، علماً بأن تجربة «توحيد البندقية» البشيرية لم تُنتج لهم سوى الجراح التي لم تندمل بعد.
ولا بدّ من الشرح للمتحمسين أن الفيدارلية لا تكون في السياسة فقط، بل في المصارف والمدارس والجامعات و»المولات» والمزارع والبساتين وغيرها. ولعل أحد المطلعين يشرح هنا لباسيل وغيره أن ما كان وارداً ربما قبل أربعة عقود بات مستحيلاً اليوم: من يقنع مصارف مثل «عوده» و»بيبلوس» و»سوسييتيه جنرال» وBLC وغيرها بوجوب إخلاء فروعها في «لبنان الآخر» والاكتفاء بزبائنهم في «لبنان باسيل»؟ ومن يقنع «اليسوعية» و»الأنطونية» وغيرها وغيرها من الجامعات بالاعتذار من نصف طلابها في أقل تقدير لوجوب مغادرتهم «لبنان باسيل» والعودة إلى «لبنان الآخر»؟ ومن يقنع المقاولين والمتعهدين وأصحاب المصالح المتوسطة بأن عليهم فوق كل مآسيهم حصر جمهورهم أكثر فأكثر. علماً بأن «لبنان باسيل» كان يتمتع قبل الحرب وخلالها ببعض مقومات الحياة زراعياً وصناعياً وخدماتياً، فيما هو اليوم سلسلة لا تنتهي من المجمعات السكنية التي لا تجد في ظل المقاطعة الخليجية أحداً يشتري شقة فيها. ولعل باسيل يتحمس في هذا السياق لحل «مظلومية النفايات» وانقطاع المياه والكهرباء وأزمة السير وغيرها مما تعانيه مناطق نفوذ التيار الوطني الحر قبل توريط هذه المناطق بهموم أكبر. ولا بدّ هنا من القول إن أزمة النازحين السوريين عنوان أساسي للتعبئة السياسية والمذهبية، إلا أن التجوال في عدة بلدات متنية وكسروانية وبترونية وزغرتاوية وسؤال أصحاب الدكاكين الصغيرة يبين عضّ هؤلاء على جميع مخاوفهم الأمنية والديموغرافية وحديثهم بإيجابية عن زبائنهم الجدد في ظل هجرة ثلثي أبناء هذه البلدات أو نزوحهم. علماً أن متابعة صفحات المتحمسين للطروحات الفيدرالية تشي بأن التفاعل الشعبي مع ما كان يوماً حلماً جعجعياً لا يزال خجولاً جداً، ولعل باسيل يحادث مستشاريه أولاً بهمومهم فيكتشف انشغال هؤلاء بتأمين القسط المدرسي اللازم لأبنائهم عن قيادة الجيش والقائد وغيره، ولعله يقرأ خطاب رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في ذكرى الشهداء فيكتشف إعطاءه الأولوية للقضايا المعيشية على حساب العلك السياسيّ التقليديّ انسجاماً من جعجع مع الملل الشعبيّ من المشاكل والاستفزاز المتبادل والابتزاز. والأهم من هذا كله أن التيار الوطني الحر كان وما زال مطالباً بالخطة البديلة، سواء في ما يخص رئاسة الجمهورية أو معركة قيادة الجيش أو غيرها، لكن لا يمكن باسيل أن يقول للرأي العام إن خطته البديلة ما هي إلا الخطة التي جربها المسيحيون ودفعوا ثمنها قبل أربعة عقود. فـ»العيش صعب مع التهميش»، و»المظلومية تبيح كل شيء»… إلا الانتحار.