أنهت أوروبا حروبها الداخلية منذ أكثر من سبعين عاماً. أنقذتها أميركا من نفسها. وضعت واشنطن حداً لصراعات القارة على المستعمرات. قدمت لها نموذجاً جديداً من الاستعمار، نموذجاً يقوم على نقل الحروب إلى هذه المستعمرات، ومحاصرتها اقتصادياً وإفقارها ونهب ثرواتها بدعم أنظمة ديكتاتورية تابعة. من يجرؤ على الرفض يصبح إرهابياً. نصبت عدواً اسمه الاتحاد السوفياتي، بدلاً من العدو الألماني الذي تحول بعد حربين عالميتين إلى تابع لها. وحدت الأوروبيين عسكرياً في الحلف الأطلسي. الخوف من العدو وحّدهم. لا التاريخ الدموي المشترك، ولا الحضارة «اليهودية- المسيحية» كانت وراء توافقهم. وحكماً ليست قيم الديموقراطية والحرية ما دفعهم إلى التكتل.
بعد الحرب الباردة كان لا بد من عدو. لم تجد واشنطن سوى الإسلام «المتطرف» والدول المارقة وروسيا. بعض هذه الدول كان يقف عائقاً دون تحقيق المصالح. ورطت أميركا أوروبا في حروب لم تنته حتى الآن. غزت أفغانستان والعراق. دعمت إسرائيل في حربها على لبنان وغزة. أشعلت الثورات الملونة في أوروبا الشرقية. عادت إلى محاصرة روسيا. نشرت قواعدها العسكرية في محيطها الأوروبي والآسيوي. باسم الحرية دعمت «ربيع» العرب في مواجهة مستبدين بالتعاون مع الاستبداد.
مع ترامب تعود أميركا إلى انعزالها وعنصريتها. قد تترك القارة القديمة وحيدة لمواجهة الإرهاب. يخطط الرئيس القادم إلى البيت الأبيض لتحالفات وتوافقات جديدة. قد يتفاهم مع بوتين، الذي تكال له الشتائم في باريس ولندن وبرلين، على المصالح في الشرق الأوسط. وقد يخفف الحصار على موسكو، ويتخلى عن القضية الأوكرانية. هذا ما صرح به خلال حملته الانتخابية، وعلى هذا الأساس يختار مساعديه ووزراءه.
في المقابل تنتشر الحركات والأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا. اتحاد بروكسيل مهدد بالتفكك. لندن الخائفة من هيمنة برلين اختارت الانفصال. اسكوتلندا تلوح للتاج الملكي بالمغادرة. إيرلندا تنتظر اللحظة المناسبة. مارين لوبن في باريس تهدد اليسار والديغوليين، وقد تصل إلى الإليزيه في الانتخابات المقبلة. النازية الجديدة تصعد في ألمانيا. الجميع يستخدم فزاعة المهاجرين والنازحين للوصول إلى الحكم. تماماً مثلما فعل ترامب في حملته على المكسيكيين والمسلمين. الرهاب من الأجانب والإسلام منتشر في كل قرية وكل حي. التقوقع على الذات أصبح عنوان المرحلة. التغني بالماضي، واستلهامه للخروج من الأزمة الخانقة ستعمقها (اسألونا نحن العرب). أوروبا في حاجة إلى إعادة النظر في سياساتها، في موقفها من ماضيها، وموقفها من أميركا ومن روسيا. ما كان يصلح لما بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم انتهت صلاحيته. مرحلة الضياع قد تطول وتجلب معها صراعات دموية داخلية وحروباً خارجية. طروحات اليمن الداعية للعودة إلى الماضي المجيد مستحيلة، القديم الذي يلوح في المخيلة مجرد سراب وأصوات قادمة من عمق التاريخ الذي قضى وانقضى. الهوية الوطنية أصبحت هويات. لم تعد الدولة-الأمة إطاراً صالحاً للوحدة.
يكتب الباحث المغربي عبد الفتاح كليطو في مؤلفه «الكتَاب والتناسخ» نصاً عن أزمة الهوية يقول: تاه شخص عن منزله وسط صحراء قاحلة. افتقد أي اثر يقوده للعودة إلى منزله، بذل جهوداً مضنية باحثاً عن طريق. لكن الصحراء تخفي أي أثر أو معلم. بعد تفكير طويل اهتدى إلى تقليد أصوات كلاب القبيلة أملاً في أن ترد عليه للاهتداء إلى موطنه. لكنه فوجئ بعوائق كثيرة فهناك كلاب أخرى غير كلاب القبيلة بعضها ضال وبعضها مضلل.
العودة مستحيلة قاتلة. هذا هو العنوان الذي يمكن أن نطلقه على التوجهات السياسية شرقاً وغرباً.