وأخيراً بانت القطبة المخفية من التحركات الأممية، وأصبح الجميع مقتنع بمن فيهم «توما» الذي لم يرد أن يصدّق أن الخارج لا يريد مصلحة لبنان، وعاد الجميع إلى مبدأ ضرورة عودة النازحين الذي بات وجودهم يشكّل قنبلة موقوتة قد تنفجر في أية لحظة لتطيح بالسلم الأهلي والطمانينة التي ينعم بها اللبنانيون بالرغم من توترات الإقليم، التي باتت تستعمل كوسيلة ضغط على الوطن المهتز والواقف على «صوص ونقطة» كما يقال في الدارج، فتكفي هزة صغيرة لتطيح بكل شيء.
أن تأتي متأخّراً خير من أن لا تأتي أبداً
وكما يقول المثل الفرنسي «mieux vaut tard que jamais» (أن تأتي متأخّراً خير من أن لا تأتي أبداً)، فبعد أن كان الرئيس عون يغرّد وحيداً وينادي بضرورة عودة النازحين، حتى أن الجميع قد نعته في حينه بالعنصرية أصبح اليوم كل اللبنانيين عنصريين. وبعيداً من العودة إلى الماضي ونكأ الجراح والمناداة بأن «بيي أقوى من بيّك»، أطلقت كل القوى السياسية توصيات للعمل على عودة النازحين، وبعد أن كان الحديث مع النظام السوري والبحث في موضوع عودة النازحين من المحرّمات، أصبح الجميع ينادي بضرورة فتح قنوات الاتصال بين الحكومة اللبنانية والنظام السوري، فبات الحوار أكثر من مطلب ليصبح ضرورة حتمية لتسهيل العودة. وهكذا فلا قانون قيصر ولا أي قانون آخر سيحول دون الاتصال بالجانب السوري.
فما عدا مما بدا
لقد تم إبلاغ الجانب اللبناني من قبل المفوضية الأوروبية أن النازحين باقون باقون، وإذا كان اللبنانيون غير راضين فما عليهم إلّا سلوك طريق الهجرة إلى معظم الدول الأوروبية التي تفضّل هجرة اللبنانيين إليها ولو كانت هذه الهجرة موسمية في البداية. هكذا وبكل ببساطة يُعطى للبنانيين تأشيرات للهجرة وكأننا نعيش أحلام دين براون لتهجير المسيحيين في العام 1976 وتوطين الفلسطينيين مكانهم، إذ إن دين براون السفير الأميركي في بيروت طلب آنذاك من الرئيس سليمان فرنجية بضرورة نقل المسيحيين من لبنان على ظهر سفن إلى كندا وذلك بحماية أميركية، وللذين عاشوا تلك الحقبة فإنهم يتذكرون تلك المرحلة وسفن تحميل المواشي التي كانت راسية قبالة ساحل طبرجا، وتُروى أكثر من رواية عن عرض دين براون آنذاك لإعطاء 60000 دولار مساعدة لكل مسيحي يقبل بالهجرة. وهكذا يبدو وبدون لا لف ولا دوران أن ما عُرض على المسيحيين آنذاك هو نفسه معروض على كل اللبنانيين هذه المرة، مع بعض التعديلات في وجهة السفر والتعويضات إلى ما هنالك من تفاصيل ليست بعيدة عن راسمي المؤامرات حول العالم وما أكثرهم. طبعاً سيأتي أكثر من شخص لتكذيب هذه الواقعة وسيأتي أكثر من مرتزق للدفاع عن دين براون والقول أن مسيحيي تلك الفترة فهموا القصة خطأ وأن دين براون فهو كان يقصد حماية المسيحيين «المضطهدين» في لبنان.
ما أشبه اليوم بالأمس
يبدو أن الذين يريدون جعل لبنان وطناً بديلاً هم كُثر وأن هذا الحل ربما يريحهم ويريح دول القرار وطبعاً يريح العدو الإسرائيلي. ولكنهم نسوا أن اللبنانيين الذين اضطروا لخوض الحرب التي شنّت عليهم منذ أكثر من 49 عاماً مع ما رافق ذلك من ويلات ودماء ودموع فجاوز عدد القتلى الـ 120000 قتيل وعدد الجرحى والمعاقين عشرات الآلاف بالإضافة إلى موجات التهجير التي عصفت بلبنان وأدّت إلى تدمير معظم قرى الجبل والإقليم وشرق صيدا، نسوا أن هؤلاء اللبنانيين صمدوا بالرغم من كل شيء وإن من بقي في لبنان اختار البقاء وذلك أياً تكن المخاطر والصعوبات.
إن إغراءات إبقاء النازحين وتسهيلات هجرة اللبنانيين لن تعطي مفاعيلها وأن اللبنانيين كل اللبنانيين سيقفون سدّاً منيعاً في وجهها، وإن ما حدث اليوم في المجلس النيابي لهو خير دليل، ويبقى أن يعي اللبنانيون أن انتخاب رئيس للجمهورية هو السبيل الوحيد لإخراج لبنان مما يتخبط فيه ويحول دون تمرير الحلول على حسابه.