الأسبوع المنصرم كان أسبوع انبعاث الأمبراطوريات بامتياز. في ولاية ماريلاند قرب واشنطن، حضرت لمحات من الإمبراطورية العثمانية لدى افتتاح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان «مركز الحضارة والثقافة التركي الإسلامي» الذي يضمّ مسجداً أُنشئ وفقاً للطراز المعماري العثماني في فترة القرن السادس عشر ومكتبة إسلامية، إلى جانب مرافق ثقافية ودينية عديدة. استنكار تحميل المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية ثمن أحداث الحادي عشر من سبتمبر واستنكار خطابات أولئك الذين يصولون ويجولون ويتهمون المسلمين بالإرهاب، في الوقت الذي يعمل فيه المسلمون على تحطيم تلك الأحكام المسبقة كان واضحاً في خطاب السلطنة في مكان ليس ببعيد عن واشنطن.
في القوقاز على أراضي السلطنة أيضاً اشتباكات على خطوط تماس الأمبراطوريات العثمانية والروسية والفارسية بين أرمينيا وأذربيجان، حيث استعاد الصراع على الإقليم الجاثم في غرفة العناية الفائقة، الذي أودى بحياة أكثر من 30 ألف شخص من الجانبين بين عامي 1988 و1994، حيويته.
المصالح الأميركية والروسية والإيرانية والتركية بأبعادها الإيجابية والسلبية ماثلة بوضوح في الإشتباك القوقازي، ميدانها ثروات بحر قزوين والتسابق على الإسواق الاوروبية وأدواتها الصراعات النائمة والقائمة على تأجيج التناحر الإثني والديني الفائق التعدد. تدهور الوضع الأمني ما بين بحر قزوين والبحر الأسود حيث تمر خطوط أنابيب نفط كثيرة يثيرقلقاً كبيراً. اللاعبون المعنيون لم يتوانوا عن التعبير بشكل صريح عن مواقفهم، الرئيس أردوغان أعلن صراحة عن دعم تركيا لأذربيجان حتى النهاية، قائلاً إنّه يصلي لكي ينتصر «إخواننا الأذريون». أما أرمينيا المدعومة من روسيا التي تملك قاعدتين عسكريتين في هذه الجمهورية السوفياتية السابقة، فأكدت أنّها مستعدة لمواجهة أي هجوم عليها من أذربيجان.
هواجس موسكو نابعة من الإتفاقات التي عقدتها باكو مع دول غربيّة في مجال استغلال حقول النفط والغاز الأذرية مع «كونسورتيوم» الشركات الدولية، من ضمن ما سُمي بمعاهدة القرن، واستبعاد أرمينيا عن خط أنابيب باكو تبليسيسيهان الذي يربط بين أذربيجان وجورجيا وتركيا. إيران التي تمثّل شريان الحياة لأرمينيا في ظلّ محاصرة الأخيرة من الشرق بأذربيجان ومن الغرب بتركيا والتي وقفت دائماً إلى جانب أرمينيا في صراعها مع أذربيجان لم يتضح موقفها من الإشتباك العسكري المستجدّ، لا سيما أنّها وأذربيجان تتشاركان ثروات بحر قزوين، ناهيك أنّ البعد الديموغرافي يجعل المصالح متداخلة بين باكو وطهران، حيث يعيش في إيران قرابة 16 مليون مواطن من القوميّة الأذرية بما يتجاوز عدد سكان أذربيجان ذاتها (9.5 ملايين نسمة) ويطالبون بحقوق يصل بعضها إلى الحكم الذاتي.
تركيا التي تقف مع أذربيجان في تشديد الحصار على أرمينيا، ويساعد على توثيق العلاقات بينهما وشائج الدين واللغة والعرق الطوراني، يزيد من حساسية دورها العداء التاريخي مع الأرمن بسبب اتهامها بارتكاب المذابح بحقهم في الحرب العالمية الأولى حين ثاروا على الدولة العثمانية عام 1915. تركيا التي توصلت مع اوباما الى اتفاق في مطلع أبريل 2009 لدى زيارته لتركيا، يرتكز على تخلي أوباما عن وعوده للأرمن مقابل وعد تركي بإقامة علاقات ديبلوماسية وفتح الحدود مع أرمينيا، والذي أعقبه توقيع بروتوكول بين تركيا وأرمينيا في 10 أكتوبر 2009 في زوريخ لإعادة العلاقات الدبلوماسية وفتح الحدود بينهما وإنهاء 90 عاما من الصراع التاريخي، لن تستطيع الإلتزام بالإتّفاق بسبب تهديد أذربيحان بمنع تدفق الغاز الطبيعي المخفّض السعر إلى أنقرة احتجاجاً على الإتفاق الذي لم يتعرض لأزمة إقليم ناجورنوكارباخ.
ما هي الظروف التي أوجبت استعادة هذا الصراع وأين يتكامل أو يندرج في مسار إعادة ترتيب النفوذ والمصالح في المنطقة، بما فيها النفطية والأمنية، بدءاً من اليمن إلى سوريا مروراً بالعراق وليبيا؟ وهل يمكن القول أنّ الإنسحاب الأميركي الذي أصبح أمراً واقعاً ومُعطىً حقيقياً أفسح المجال أمام القوى الإقليمية الصاعدة لملء الفراغ وإرساء توازن جيواستراتيجي جديد يضمن مصالحها مما أعاد الحيوية لخطوط التماس التي أُرسيت على أساسها مناطق النفوذ السابقة؟ ربما تحوّل تعديل الخرائط والحدود التي جرى الكلام عنها إلى توزيع جديد لمناطق النفوذ والمصالح فاقتضى التعديل !!