Site icon IMLebanon

«عودة الروح» إلى قلب بيروت

هنا بيروت، وهي تغادر مكان إقامتها البارد والمصادر. سيرة أخرى تكتبها الأرصفة والساحات وحناجر الغضب. العاصمة تستعيد مكانتها بين شعبها. مضجر أن تكون المدينة «زينة» سياسية ومحفظة مالية وبؤرة نفايات… بيروت الجميلة، لا يدافع عنها مغتصبها. لذا، فقد حدث ما كان متوقعاً. «ربيع صغير» يلفح فصولها الداكنة، يختلف عن أي «ربيع عربي»، أسرته الآيات ومحفظة الأموال وجحافل التكفير وحلف الاستبداد. هنا، بيروت تتنفس وتلتئم.

حدث ما كان متوقعاً، خرج الشعب، شاهراً صوته: «طلعت ريحتكم». إنما حدث في الوقت نفسه ما لم يكن متوقعاً. انضمّت الطبقة السياسية إلى حركة الاحتجاج التي تطالب بإسقاطها. سارعت الطبقة نفسها إلى تبني ما قيل فيها من «ردح» ونقد. وافقت على النعوت والصفات والمثالب والفضائح التي أغدقت عليها. تجرأت واعترفت. قالت: «أنا فاسدة وطلعت ريحتي». ولقد كان قولها من نوع الصدق النادر، فهي اعتادت الكذب وترويج التزوير بفخامة وجلالة. اعترفت ولم تندم ولا وعدت بتراجع. قالت أنا كذلك وسأظل كذلك. لذا، رفدت التظاهرات السلمية في بيروت بأعداد من المحازبين وأصحاب الأقنعة والسوابق، لتمثيل دور «البطولة» في مواجهة «لابسي الثياب العسكرية»، ثم بادرت إلى لصق الاتهامات بها. اتهامات بالانتماء إلى أطراف في «الطبقة السياسية».

هنا بيروت ملتقى ما كان من المستحيلات، بسبب تراكم العجز وتفاقم اليأس. لقد حدث ما كان ميؤوساً منه. كان الموت السياسي يشل حيوية إنتاج بدائل، ولو كانت ضئيلة ومتواضعة. كانت الأبواب مقفلة ومفاتيحها في «زنار» عصبة «الطبقة السياسية». وكان اليأس ينام في فراش اللبنانيين ويسبقهم إلى صبحهم ويلازمهم في سير يومهم وعملهم. كانت لغة العصيان والتمرد أضحوكة، يخجل قائلها من تبنِّيها علناً، لأن سطوة الاستسلام والعبث واللاجدوى تسخِّف كل حركة مناوئة.

هنا بيروت… حدث العصيان، في زمن غرق فيه لبنان في النفايات، بعد دهر الكهرباء المقطوعة، وبعد تطويب الفساد نظاماً أساسياً تسير فيه السياسة وفق مقتضيات المحاصصة، كفعل اغتصاب مشروع… حدث العصيان بعد تعميم «صكوك الغفران» على المرتكبين، أصحاب الأمر والنهي، بما يملكونه من سلطة «التحالف المقدس» بين المال والطائفة والدعم الخارجي. لذا، فما حدث، كان بمثابة معجزة صغيرة، آمنت بها جموع اندفعت إلى الشارع، وكان ما كان و… ما سيكون.

هنا بيروت… والخطر هنا كذلك. مغامرة الشارع محفوفة بتجارب سابقة لم تنجح. الشارع اختبار صعب جداً، مكلف جداً، محبط أحياناً، والأفدح أنه خطير. الشارع في لبنان مكشوف أمام الطوائف والمذاهب وتياراتها، وهذه لها من القوة «المليونية» المفترضة والمنفوخة، ما يتيح لها أن تخوض فيه تخريباً وقتلاً ودماً. السوابق بليغة: مطالب «الحركة الوطنية» والنضالات المطلبية التي ضجت بها شوارع بيروت في السبعينيات، فتحت أبواب جهنم: خرج لبنان من جحيمه بعد خمسة عشر عاماً من القتال والقتل، إلى نظام تقوده «طبقة سياسية» تخرجت من خنادق الميليشيات برتبة «أمراء حرب» أو جاءت من خزائن التسويات المدفوعة برجالات من أثرياء حرب أو أثرياء خليج فوق العادة. الشارع في لبنان، عندما اغتيلت أحلامه، أنتج هذه «الطبقة السياسية» بالذات. هذه هي، وذاك تاريخها. وقد دمرت لبنان في الحرب ثم احتلته في السلم.

سبق أن شهدت بيروت حركة تستنسخ «ربيع تونس». حدث أن تحمس جيل لبناني لتقليد ما أبدعته «حرائق البوعزيزي». فاقت الأعداد المشاركة التوقع. طالبت بإسقاط النظام الطائفي، فلم يسقط. سقطت التجربة عندما تصدرتها جموع قادمة من طوابير التيارات الطائفية.

حدث أن عاشت بيروت على وعود «هيئة التنسيق». كانت تجربة رائدة وفذة وسلمية ومؤيدة من تكوينات وتلوينات مهنية عديدة. ومع ذلك، فقد أسقطتها «الطبقة السياسية» من الخطوط الخلفية، وبأيدي من كان مساهماً في «النضال»، بتوصية «حزبية» مرتبطة بعصبة «الطبقة». هذه «الطبقة» أطبقت على المحاولة، وهي الآن تضع خريطة طريق لإسقاط «طلعت ريحتكم» في أول المشوار.

هنا بيروت. يومها لا يشبه أمسها. غدها في الانتظار. أمانة العاصمة في عنق الحراك السلمي، إذا اتسع وعمّر وحافظ على النضال السلمي. العنف عدو الحراك، من أي جهة جاء. أكان عنفاً منفلتاً متفلتاً من جموع غاضبة أم عنفاً مندساً أم عنفاً تتعمده السلطة وتتبرأ منه. الدم يستسقي الدم. الدم يمحو حبر الشعارات ويخرس كلام المطالب. الطائفية تستسهل سفك الدماء. المشهد اللبناني في حروبه الماضية، يشبه المجازر التي تبرهن على توحش المذهبية والاستبداد.

أمانة المطالب في عنق الحراك السلمي، إذا تواضع وقاس أهدافه بما لديه من قوة وصلابة، وبما لدى «الطبقة» من نقاط ضعف وأماكن استنزاف، وهي كثيرة في هذه المرحلة، حيث «فتنة الطبقة» باتت قاب قوسين أو أدنى بعدما عامت على نعمة الفراغ. شعار إلغاء النظام وإسقاطه، يحتاج إلى حروب. ذقنا ويلاتها مراراً، وكان من نتائجها ترسيخ النظام.

شبكة أمان الحراك إدراكه بأن معركته هي بالتقسيط، بما يشبه الحفر في الصخر، وانتزاع الحقوق حقاً بعد حق. تعرية الطبقة السياسية وظيفة يومية، ولكن إلزامها بالتراجع لا يتم إلا عبر إنهاكها، وإقناع جماهيرها بأنها مستلبة، فيما مصالحها أن تكون إلى جانب الحراك. «النظام» و «الطبقة» صنوان، إنهاك «الطبقة» توطئة لسحب النظام إلى حتفه.

«الطبقة» اليوم، برغم خلافاتها وإخفاقاتها، تتمتع بجدارة البقاء بسبب فقدان البديل. تحضير البدائل، بعد أعوام، مهمة هذا الحراك.

الشعب في لبنان مدعو إلى أن يختار بين «الطبقة السياسية» وبين «الشارع»، بين مروجي اليأس وموزعي النفايات وبين بيروت.

بيروت اليوم تشبه شارعها. شيء من توفيق الحكيم. فأهلاً بـ «عودة الروح» إليها.