IMLebanon

عادوا أحراراً إلى بلد أسير

أطلق العسكريون المحرّرون أيديهم نحو السماء، شوقاً إلى الشمس والحرية وتعبيراً عن شوقهم إلى وطن تركوا فيه، يوم أُسروا، أمهات وآباء وزوجات وأولاداً وأسراً وأصدقاء. تركوا أحبّة لم يذوقوا طعم النوم، على مدى سنة وأربعة أشهر، خوفا على الأبطال المغيّبين وتشوّقاً لساعة اللقاء بهم.

أوّل من شاهدوا من المسؤولين بعد فك أسرهم هو اللواء عباس ابراهيم، المدير العام للأمن العام، الذي بعث برسالة مطمئنة إلى الأسرى وكل اللبنانيين، مفادها أن الدولة ولو غابت لتنشغل عن هموم البلد واهتماماته الأساسية بتفاهات السياسة، ففيها رجال من أمثال اللواء ابراهيم ينوبون عن الدولة ويملأون فراغها ويعوّضون نواقصها، بالجهد والصبر والمثابرة والحكمة والإخلاص وطول النفس.

ولكنهم صدموا بعد ذلك، على الأرجح، بصورة البلد المعطّل وبفشل الدولة وتهافت مؤسّساتها. لا بدّ أنهم اكتشفوا بسرعة أن البلاد باتت اليوم بحال أسوأ من الحال التي كانت عليه يوم وقعوا أسرى بيد الظلامية والإرهاب.

ولكن، من حسن الحظ، أن الأسرى المحرّرين يعودون وفي أفق لبنان ضوء خافت وبصيص أمل بإمكانية عقد صفقة سياسية تنتشل البلد من أزمة سياسية مستمرّة منذ عشر سنوات. فاللبنانيون يراقبون، باستغراب ودهشة، تطوّرات ايجابية تطلّ على الساحة السياسية، ولكن ببطء وحذر.

استغراب ودهشة لأن لبنان هو مرآة المنطقة ويتأثر، على وجه الخصوص، بمجرى التطوّرات في سوريا، حيث ما زالت الأزمة تسلك طريق التأزيم والتعقيد. فجرعة الأمل التي وفّرها مؤتمر فيينا الثاني بدّدها، تقريباً، حادث إسقاط الطائرة الروسية وما أعقبه من صيحات بديهية ومفهومة لدولة عظمى ذات قوّة عسكرية متفوّقة تشعر بأن كرامتها قد جُرحت وأنها «طُعنت في الظهر».

يتساءل المراقبون عن سرّ التطوّرات على أرض سوريا وفي سمائها. مشهد الخريطة المتكاملة للحل السياسي، التي أقرّت في فيينا، لا ينسجم بتاتا مع العنف المستمرّ في البلد الشقيق، ولا مع وصوله إلى حدّ الاشتباك الخطير بين روسيا وإحدى الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي.

تزامن المسارين، الحربي والسلمي، بين القوى الأجنبية المتورّطة في النزاع السوري، يظهر نوعا من الصراع على احتلال الأراضي بين هذه القوى، في حركة تسابق الجهود الكثيفة للحل السياسي. وكأن سوريا قد تبقى بلداً موحّداً، ولكنها، من الناحية الواقعية، لن تكون أرضها موزعة بين طوائفها ومكوّناتها الإيديولوجية فحسب، بل يُخطّط لها أن تتحوّل، أيضا، إلى مناطق نفوذ للقوى الخارجية المتورطة في الحرب. ما يمكن أن ينشأ عن تطوّر الصراع بهذا الاتجاه هو قيام فدرالية سورية، ليس بين طوائف سوريا، بل بين الدول الكبرى والإقليمية، وهذا نظام نادر في تاريخ العلاقات الدولية.

من منظور عقلاني، هذا هو الوقت المناسب لكي يعقد القادة اللبنانيون اتفاقاً تاريخياً جديداً ينقذ بلدهم من المخاطر التي يمكن أن تنشأ عن النزاع السوري. ولكن اللبنانيين، أي عامّة الناس، صامتون ومتحفظون بأمل تجاه أخبار التسوية المرتقبة.

مصلحة لبنان هي في خلق تفاهم داخلي لحماية الاستقرار بديلا من دور عربي بات مفقودا، لضبط التوازن اللبناني. فرغم الانطباع السائد لدى قسم من اللبنانيين بأن الرياح كانت تدخل إلى البيت اللبناني دائما من «الشباك العربي»، فإن هذا الاعتقاد يتجاهل أن التدخل العربي كان في أحيان كثيرة ينحاز إلى جانب المصالحة والاستقرار.

كان للنحّاس باشا إسهام بنّاء في اتفاق بشارة الخوري ورياض الصلح، وإنتاج الميثاق الوطني. ورغم أن صعود الناصرية أدّى إلى اضطراب داخلي في لبنان نتيجة حماسة قسم من اللبنانيين للوحدة العربية وخوف قسم آخر منها، فقد دعم عبد الناصر الرئيس فؤاد شهاب والتسوية التي أعقبت أحداث 1958. لقد ضمن التزام الفريق الإسلامي بالتسوية، إلى أن طغى العامل الفلسطيني على الساحة اللبنانية. ورغم عدم إعجاب معظم اللبنانيين بالنظام الذي نشأ في كنف النفوذ السوري بعد سنة 1990، لا يمكن الإنكار بأن الوصاية السورية أوقفت الحرب الأهلية وأعادت تأسيس الدولة «كيف ما كان»، ولولاها لبقي لبنان أسير العنف والدم ومقسّما بين الميليشيات.

اليوم تغيب الدولة المركزية في المشرق العربي القادرة على التأثير في لبنان وضبط حدود صراعاته، فيما مصر منشغلة «عمدا» بأعباء مشاكلها الجديدة والقديمة. إن القاعدة الأولى لنظام الشرق الأوسط الجديد هو منع وجود دول عربية قويّة وطموحة، تكون مصدر قلق لإسرائيل.

فإذا انفجر الصراع في لبنان لن نجد حَكَماً يطلق صفّارة الإنذار ويفضّ الاشتباك بين اللبنانيين. إنها الفوضى بلا أفق وبلا حدود.

التسوية بين اللبنانيين هي البديل وهي الضمانة، والأنانية المعوقة للتسوية قد تنهي لبنان وشعب لبنان.