قامت الثورة الإسلامية عام 1979 في إيران لتسقط الشاه وتقيم نظاماً جديداً. كانت ثورة عكس التاريخ. تقوم ثورات التغيير من أجل السير بالبلد نحو التقدم، وإلغاء ما يعيق الخطوات الإصلاحية نحو الأفضل. ما حصل في إيران مع هذه الثورة أنها ارتدت قروناً الى الوراء عما حصله البلد من حداثة وتقدم. فأعادت الثورة الإيرانيين الى زمن أهل الكهف، من خلال استحضار منوعات التخلف وفرضها على الشعب. ما يطرح اليوم من شعارات في سياق الحراك الاحتجاجي، يشير الى أن الإيرانيين يريدون الدخول الى العصر والخروج من إسار القيود الصارمة المفروضة عليهم، وهي رغبات تضم معظم أبناء هذا الشعب.
سمة أخرى للثورة الإيرانية أنها لم تكن بقيادة مطلقة للخميني والمؤسسة الدينية التي يقودها. كانت ثورة تعددية شارك فيها حزب «توده» الشيوعي، ومنظمة «مجاهدي خلق»، ومؤسسات دينية وآيات الله ممن لم يكونوا في صف الخميني. وكانت أهدافها صريحة في إقامة نظام ديموقراطي تعددي يكون نقيض حكم الشاه الاستبدادي. كان الخميني من قوى الثورة ولم يكن الأوحد، لكنه سلك منذ الأشهر الأولى مسلك تصفية القوى الأخرى التي لم يكن للثورة أن تنجح من دون مساهمتها. لجأ الخميني، بعد أن استتبت له السلطة الى موجة تصفيات، بدأت بإعدامات جماعية لمحازبي «توده» وأنصاره، ثم انتقل الى «مجاهدي خلق» فنكل بهم. كانت الإعدامات الجماعية لهذه القوى المعارضة تسير بوتيرة متسارعة حتى تأكد أنها لم تعد تشكل قلقاً على الخميني وملاليه. انتقل بعدذاك لتصفية خصومه من آيات الله الذين لا يقولون قوله بولاية الفقيه، أو الذين يخالفونه في طبيعة النظام الذي يبنيه، فاعتمد أسلوب الاغتيالات المتتابعة لرجال دين كانوا يتصفون بنظرة إصلاحية تجاه ما تتطلبه إيران.
أمكن الخميني، بعد حملة التصفيات هذه، أن يقيم نظاماً استبدادياً لعله أسوأ بما لا يقاس من حكم الشاه السيئ والقمعي. أخطر ما في نظام الخميني أنه يتجلبب بأيديولوجية دينية، تنصبه ناطقاً باسم الله وممثله على الأرض، بما يعيد إيران الى أزمان غابرة عرفتها أوروبا في عهد سلطة البابوات، وشهدها التاريخ العربي على يد بعض الخلفاء. هنا أيضاً سارت الثورة عكس التاريخ. لم يكن الخميني وحده ممثل الله على الأرض، بل انسحب اللقب على معظم آيات الله. باتت الفتاوى بالقتل والاغتيالات والتصفية ذات شرعية دينية، لأن أعمال القوى المعارضة تمس الذات الإلهية للملالي. لا بد من الإشارة الى كلام كثير صدر يومذاك من الغرب أن الولايات المتحدة الأميركية كانت داعمة الخميني في عمليات التصفية لمعارضيه الذين كانت ترى فيهم خطراً أكثر من الخميني.
في العودة الى الحراك الاجتماعي الذي اندلع والذي لا يزال مستمراً، فمن الطبيعي أن تتحول شعارات المحتجين الى شعارات سياسية تطالب بالجملة بإسقاط النظام. فالفقر والبطالة والفساد وتحويل الثروات الى خارج البلاد… كلها في صلب السياسة، وكلها تمس النظام السياسي القائم بالصميم، والمسؤول عنها القائمون على الحكم. فاليوم، يثأر التاريخ من أربعة عقود على قيام ثورة انتهت بإفقار الشعب بدل أن ترفع من مستواه، خصوصاً أن إيران بلد شاسع ويملك ثروات ضخمة يمكن لها إذا ما وضعت في خدمة الشعب أن تقدم له حياة لائقة.
هناك تساؤل مشروع مطروح اليوم حول مدى قدرة هذا النظام على القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية تستطيع الطبقة الحاكمة بموجبها وضع حد للحراك. التشكيك كبير، فنموذج الأنظمة الاستبدادية المطلقة يخاف من تقديم إصلاحات، التي ستستدعي إصلاحات غيرها، قد تصل بالنظام الى واقع آخر. في التجربة السورية أكبر الأمثلة. لذا ليس في جعبة الملالي سوى الإحالة الى المؤامرة الخارجية، حيث لا يزال الاتهام سارياً. لكن النظام يريد كبش محرقة في الداخل، فلجأ الى اتهام رئيسه أحمدي نجاد بتحريك الشارع، وهو رئيس لم يكن أقل فساداً وسؤاً من الذين يتهمونه الآن، بل كان شريك الملالي في النهب والقمع.
هل يمكن الحراك أن يحقق أهدافه أو شيئاً منها؟ الجواب مبكر عن ذلك، لكن الحراك يتسع أبعد من المناطق التي انطلق منها، ومن القوى التي قامت به. بدأ الحديث عن تحولات في موقف الطبقات الوسطى التي كانت عماد الحراك عام 2009، نحو الانخراط في الحراك. وإذا ما تصاعد واتسع أكثر، سواء بالقوى المنخرطة فيه، أو بدخول قوميات تعاني الاضطهاد، وبات يهدد النظام، فلا يستبعد حصول انقسامات داخل الطبقة الحاكمة، خوفاً من غرق المركب بالجميع. لا يزال مبكراً الوصول الى هذه التوقعات.
في المقابل، ما هو ثابت أن ما حصل من حراك يصعب بموجبه إعادة الشعب الى سجنه الحديدي، قد يشوب الحراك بعض التقطع أو الانتكاسات، فهذا أمر طبيعي في مثل هذه التحولات. لكن الثابت بل والمتوقع، أن إيران قد تكون مقبلة على مجازر وحمامات دم لن يتوانى الملالي عن سفكها حفاظاً على سلطتهم.