IMLebanon

ليس بالجوع وحده تندلع الثورات

 

 

“عندما يجوعون سيثورون على السلطة” عبارة يكررها معارضون كلما نظروا إلى الشارع غير راضين عن حجم الاحتجاجات. أو كلما سئلوا عن عدم تجاوب الشارع مع دعواتهم بالشكل الذي يتناسب وحجم الأزمة. وكأنهم بهذا الرّهان يعزّون أنفسهم، ويعبّرون عن قناعة أشبه بالتمنّي، ترى أن ثورة الناس على السلطة حتمية بمجرد أن تجوع حقاً.

 

 

للتاريخ ومسار الأحداث في لبنان رأيٌ آخر ينفي حتمية أن الجوع محرّك الثورات، كما أن الواقع على الأرض يظهر تعقيدات عدة لا تبشر بمواجهة حتمية بين شعبٍ وسلطة. بل وإن التلويح بالفتنة يوم السبت 6 حزيران كان تلويحاً بالقدرة على وضع المواطنين بمواجهة بعضهم البعض والاستعداد لذلك في حال هددت مصلحة النظام. كذلك تحوّل الجوع والعوَز ومشهد الإعاشات وسيلة دعائية بيد أحزاب السلطة لإعادة كسب ولاءات الناس. وبات “الجوع” مادة للاستغلال في خطابات أركان المنظومة.لطالما دفعت الظروف الاقتصادية الصعبة الناس إلى الإقتتال في ما بينها بدلأ من الإتحاد ضد السلطة. ينسى مردّدوعبارة “الشعب عندما يجوع يأكل حكامه” الواقع اللبناني، وأن في السلطة ومنذ عشرات السنوات “زعماء” قاتلوا في معارك داخلية وخارجية، يجيدون لعبة الدم والتقسيم، والتحالف على شكل خصومة لتأمين جوّ خلافيّ بين أنصارهم يحفظ تحالفاتهم ويقوّض أيّ محاولة لإسقاطهم. فهم يريدون للشعب عندما يجوع أن يأكل بعضه بدل ان يوجّه غضبه باتجاههم ويحاسبهم. وفي البحث عن أسباب إقتتال المواطنين فيما بينهم بدل التوحد في مواجهة السلطة، تتداخل الأسباب النفسية والسياسية والإجتماعية التي تؤثر في سلوك الفرد والجماعات.

 

ويبدو أن السلطة في لبنان قامت بواجبها على أكمل وجه لضمان ألاّ تأتي ساعة يثور فيها الناس في وجهها. فحرصت على تعميق وترسيخ الفروقات بين اللبنانيين ووضع الحواجز التي تمنعهم من التواصل في ما بينهم كمواطنين. فكان لكل طائفة مؤسساتها المختلفة، منها المؤسسات التعليمية التي صاغت ثقافة الأفراد وهويتهم. غيّبت المساحات العامة التي قد يلتقي الناس فيها، فكوّنت الجماعات تاريخاً مختلفاً وعداوات مختلفة ومخاوف مختلفة، وحكمتها قوانين أحوال شخصية مختلفة، فبقي اللبنانيون جماعات لا مواطنين، يسهل على زعيم كل جماعة استحضار هذه الفروقات لردع أي محاولة لمحاسبته.

 

تركيبة الأفراد تحدد مسار العنف

 

يشرح الباحث في الأنتروبولوجيا وعلم الإجتماع، الدكتور سعيد عيسى، لـ”نداء الوطن” أن طريقة إبراز العنف وتوجيهه تختلف بحسب تركيبة الأشخاص وطبيعتهم وبنيتهم الفكرية، “فمن يملك إرادة التحدي ومن خلفها قدرة فكرية يوجه عنفه باتجاه السلطة، وفي حال كان الشخص ضعيفاً ولا يملك القدرة الفكرية أو أيديولوجية معينة من الممكن أن يتحوّل عنفه إلى عنف داخلي، فينعزل ويكفّ عن التواصل مع الآخرين، أو يمارس العنف على الأضعف منه. فنرى العنف بين حيٍّ وحيّ آخر”. ويلفت الباحث إلى الدور الذي تلعبه الخلفية الفكرية للبنانيين في مشهد العنف الممارس فيما بينهم، “ففي ذاكرتهم يعيشون بمجتمع لا دولة فيه ويغيب عن ناسه فكر المواطنة. ضاع مفهوم الدولة عند الأفراد وعند أي محك لا يجدون دولةً. آليات تركيب الدولة موجودة شكلاً، بينما في الواقع هي نوع من المحاصصة، لذلك لا يتوجه عنف الأفراد ضد الدولة ويتوجه الأشخاص بسرعة ضد بعضهم، أو تتوجه طائفة ضد طائفة والجماعات ضد بعضها، لأننا جماعات لبنانية لم تصل إلى مرحلة التاريخ المشترك ولا الهوية المشتركة. وفي ظل أوضاع كهذه يعود الناس إلى الحمايات المحلية، لأن المؤهل بتأمين الحماية لهم غير موجود”.

 

يعارض عيسى النظرية القائلة بأن الجوع يدفع بالناس للثورة ضد السلطة، “فليس الجوع ما يغير دائماً، إنما بناء أفكار جديدة والفردانية أي أن يمتلك الشخص زمام الأمور”. وفي ظل الأزمة الحالية، يرجح الباحث عيسى أن يواجه الناس بعضهم البعض، أو أن تعيش المكونات الطائفية في غيتوات كما حصل خلال الحرب الأهلية، ليصبح الحيّ الوحدة الاجتماعية ويدير أموره بنفسه. ويستبعد عيسى اليوم احتمالات عنف واسعة، “لوجود ضابط لديه القدرة على ضبطها، هناك قوة كبيرة وهناك خوف منها، وعدد الذين من الممكن أن يواجهوا ويموتوا ويُنسَوا محدود”. أما مشهد الإشكالات بين عين الرمانة والشياح فيعتبره عيسى عادياً، باعتبار أنه يتكرر دائماً وليس بالحجم الذي كُبِّر فيه، “فهو يحمل الكثير من الرسائل والاستغلال السلبي”.

 

 

ويتجذّرغياب فكر المواطنة والإنتماء إلى كيان واحد منذ زمن طويل. إذ يتحدث الأستاذ في علم الإجتماع والتنمية، الدكتور بشير عصمت، في اتصال مع “نداء الوطن”، عن تراكم تاريخي سبق مرحلة الحرب اللبنانية التي أنتجت هذه السلطة. “منذ العام 1840 حُكم لبنان بنظام الملل التي بنيت الحمايات على أساسها منذ 200 عام. ومنذ إنشاء لبنان الكبير قبل 100 عام لم يكن هناك بناء حقيقي لروح المواطنة والإنتماء إلى الكيان”. هذا الواقع لم يتغير في التاريخ الحديث، إذ يشير عصمت أنه وبعد 15 عاماً من الحرب بقيت حماية المجموعات الطائفية ضمن مجموعات اتصلت بالسلطة منذ العام 1990. “تلوّح هذه المجموعات بالحرب الأهلية التي يعتبرها قسم كبير من اللبنانيين ظاهرة غير قادر على تجاوزها”. وفي حين تجيد السلطة قمع الانتفاضة عبر إخراج فزاعة الحرب الأهلية في كل مرة يحاول المنتفضون مواجهتها، يرى عصمت أنّ التهويل بالحرب الأهلية “أداة ممتازة بيد السلطة، ومن الطبيعي أن ينسحب المنتفضون خوفاً من المواجهة عندما تلوح لهم السلطة بالعنف. فهم لا يملكون أداة غير أيديهم، ولا يواجهون طرفاً واحداً إنما أخصام السلطة التي تملك أدواتها القمعية والإدارية”. ويرى الدكتور بأن الجوع لا يخلق وعياً وإنما يخلق فوضى. ويرجع السبب في ذلك إلى غياب قوى إجتماعية جامعة منظمة لكل الطوائف ذات وزن تمنع الفوضى وتؤمن الأمان الإجتماعي.

 

احتذوا بالتجربة السويسرية

 

وعلى الرغم من قراءته للواقع اللبناني وقوله بأن الجوع يفجّر عنفاً، يراهن الدكتور أنطوان مسرّة على أن يساعد الجوع على توعية الناس لشؤونها الحياتية. وفي حديث لـ”نداء الوطن”، لا يرى مسرةّ أن المصيبة في لبنان تقتصر على الجهل، “بل هناك حالة نفسية شبيهة بحالة النازية في زمن هتلر. هناك مجموعات من الناس مخدوعة بشعارات ووعود، ويخضع لبنان لآيديولوجية تلعب بالغرائز والعقول. البعض يخضع لها بانتهازية والبعض الآخر يخضع لها من دون سوء نية”. ولا يدري العضو السابق في المجلس الدستوري، إن كان بإمكان الأشخاص وعي الموضوع إلا من خلال الامور المعيشية.

 

وإن كان الجوع يدفع الناس باتجاه العنف، يشير مسرة إلى وجود جهات سياسية قد تراهن على العنف في سبيل السعي إلى السيطرة. لذلك يرى أن المسألة الأهم اليوم هي شرح الأمور للناس وإطلاق أفكار بديهية، “في لبنان لسنا دولة بل دولتين، دولة رسمية ودولة أخرى. لا حل للقضايا المعيشية واستعادة الثقة بالمصارف إلا باستعادة الدولة كدولة تملك قوة واحدة وجيشاً واحداً”. يحكي مسرة أن لبنان وطيلة حياته عاش مع كل أنواع الأحزاب واستوعب أحزاباً كان يمكن منعها، “ومشكلتنا اليوم ليست مع حزب محدد، وإنما هل نريد في لبنان دولة أم لا دولة”.

 

يحمّل مسرة المواطنين أيضاً المسؤولية، “فهم لديهم الإمكانية ليكونوا أحراراً لكنهم ليسوا كذلك، فنحن نتهم أنفسنا بأننا أزلام ونحتاج دوماً للباب العالي”. أما الحل، فيراه بالمواجهة “بالمبادئ لا بالعدائية بالعودة إلى ألف باء قواعد الحكم المعترف بها”. وينظر مسرّة إلى التجربة السويسرية كمثال يمكن للبنان الاحتذاء به. “فالمواطنية موضوع واسع جداً ومهم، وقسم كبير من مشكلتنا في لبنان ثقافي. لقد شهدت سويسرا 300 عاماً من النزاعات وتدخل الجوار بشؤونها. جزء من الحل كان بأن جوارها أصبح أقل عدائية وأكثر ديمقراطية، فبنت ثقافة وامتلك شعبها قناعةً تمنع الفتنة”.

 

لا حلّ إلا بالتنظيم

 

وبمقابل من يراقب الشارع، مراهناً على الجوع وحده لإسقاط السلطة، في الانتفاضة معارضين للسلطة يدركون جيدا تركيبتها وتركيبة الشارع. يشرح هاني عضاضة، عضو منظمة “لحقي” والتجمع الشيوعي الثوري، سبب ميل الناس للاقتتال بدل مواجهة السلطة. ويرى عضاضة أنه بغياب التكافؤ في علاقات القوة بين قوى السلطة والناس، “يواجه الناس بعضهم لقدرتهم على فعل ذلك، فيفرغون هذه الطاقة بوجه من هم أضعف وليس من هم أقوى، بالإضافة للعوامل الأيديولوجية، من الطائفية للعشائرية وصولًا للانقسامات على أساس مع أو ضد السلاح. وهناك العديد من أسباب الانقسامات العمودية”. ويدرك عضاضة أنّ السبب الرئيسي لهذه المعضلة التي توجهها القوى المنتفضة، يكمن بغياب إطار حقيقي يجمع الناس بوجه قوى السلطة، “ما يدفعها للشعور بالضعف تجاه القوي جدًا لاشعوريًا ولتوجيه غضبها نحو الأضعف”. وعن كيفية تجاوز هذه المشكلة التي تشكل الحصن الذي تحتمي خلفه السلطة، يقول عضاضة أن “لحقي” تعمل على تنظيم الجذور المناطقية والقطاعية، بهدف تنظيم أكبر قدر ممكن من الناس، “فلا حلول أخرى”.