تضع الثورة اللبنانية بعض جمهورها في حالة إحباط، وذلك لنوعين من الأسباب. يتعلّق الأول منها بصورة نمطية عن الثورة مطبوعة في مُخيّلة الناس، والثاني بالصعوبات التي تواجهها الثورة اللبنانية.
الثورة في المخُيّلة الشعبية، مقرونة بالعنف وبالإستيلاء السريع على السلطة. ولم تبخل الثورات الحديثة وأشباهها بتقديم الأدلة. الفرنسية قطعت رِقاب قادتها بمِقصلتها الشهيرة، والسوفياتية صبغت أعلام الثورات بلون الدم الأحمر. أما الانقلابات التي أعلنت نفسها ثورة من خلال الإذاعة والبيان رقم واحد، وقادها ضُبّاط في العالم العربي، أو تلك التي قادها مُتشدّدون من المعمّمين على اختلاف الرتب الدينية، على غِرار ما حصل في تجارب إيران وأفغانستان وداعش، فلم تتجاوز الثورة عندها حدّ استبدال الحاكم، من دون السعي إلى تغيير النظام.
خِلافاً لهذه الصورة النمطية المزدوجة، أصرّت الثورة اللبنانية، من جهة، على استبعاد العنف وعلى الطابع السلمي، وابتكرت أشكالاً من التعبير، مُغايرة لما حصل في ثورات الربيع العربي، فلم تتوسّل أي شكل من العنف مع الأجهزة الأمنية والعسكرية، ولا سمحت للميليشيات باستدراجها إلى المواجهة، حتّى بالسلاح الأبيض.
كما أصرّت، من جهة أخرى، على المُطالبة بإصلاحات طويلة النفس، تحت سقف الدستور، مُستبدلة شِعار الشعب يُريد إسقاط النظام، بشِعار الشعب يُريد تطبيق النظام، مُفترضة أنّ أحكام الدستور الحالي كفيلة بإعادة بناء السلطة والدولة، على أسس الديمقراطية، على أنقاض نظام الإستبداد المُقنّع، المحكوم بأدوات ميليشياوية ونهج مافياوي.
هذه الصيغة المُبتكرة للثورة، المُغايرة لكلّ الصور التقليدية، تواجه صيغة مُبتكرة هي الأخرى من الإستبداد، غير معهودة في تاريخ الأنظمة الإستبدادية. قشرة من الديموقراطية قِوامها دستور وقوانين، تُخفي أشدّ أنواع القمع شراسة، وأبرز وجوهها التهويل الدائم بالحرب الأهلية، التي أذاقت اللبنانيين مُرّها، كما علّمتهم كيف يتحصّنون لعدم الإنزلاق إليها. في مثل هذه الظروف، من الطبيعي أن تواجه الثورة من الصعوبات، ما يجعلها تبدو في مراوحة على امتداد الأشهر السابقة.
أبرز هذه الصعوبات، التشرذم الظاهر في صورة الثورة. لا شك في أنّ الجموع التي ظهرت في البدايات تقلّصت مع مرور الوقت، وأنّ ساحة الثورة في العاصمة وفي المدن الأخرى، لم تعد تشهد حشوداً بمِئات الآلاف، وأن المجموعات التي تشكّلت منها الثورة في البداية، أُصيبت بنوع من التشتّت، وتوزّعت على أكثر من شارع وساحة، وحملت أكثر من شعار، فبدت مُفكّكة الأوصال، وبدأ الإحباط يدبّ في صفوف جمهورها. ذلك يُملي على الثورة أن تبذُل ما يلزم من الجهد، لإعادة تنظيم صفوفها، وتوحيد كلمتها.
الصعوبة الثانية تكمن في أنّ برنامج الثورة وكذلك شعاراتها الأولى، تحتاج إلى تطوير يُناسب ردّ السلطة على مطالب الثورة. لقد تمكّنت الثورة من تحقيق إنجاز “مادي” وحيد، هو إسقاط الحكومة، إلا أنّ نظام المافيا الميليشياوي تمكّن من إفراغ الإنجازات “المعنوية” من مضمونها، وبات على الثورة أن تُعيد تنظيم الهجوم مُجدّداً.
إنّ الثورة أمام صعوبات قابلة للحلّ. أما السلطة، فهي أمام مأزق لا حلّ له إلا برحيلها، وبإصلاح النظام.