Site icon IMLebanon

الشتيمة لمن يستحق

 

تُريح كالبكاء وتُغني عن التكسير ومكفولة دولياً

 

لم يشهد الشارع اللبناني من قبل كمّ السباب والشتائم التي شهدها منذ انتفاضة 17 تشرين. رفعت الشتيمة بالشعارات والهتافات، لحّنت وكتبت على اللافتات والجدران وتلفّظ بها المواطنون على الهواء مباشرة بكلّ جرأة وقهر، فقد أوصلت بذاءة الوضع اللبناني، وبعد أن قال كلّ شيء، الى أنه لم يعد يجد ما ينطق به سوى الشتائم كتعبير عن سوء الحال. فحرّكت الشتيمة مشاعر المسؤولين المرهفة، لكنها لم تحرّك ضمائرهم. وبدل الشعور بمعاناة المواطنين، حاول هؤلاء إخراج الشتيمة من السياق الذي ألقيت فيه. فاتُّهم المحتجّون بقلة الأخلاق، بينما كانوا يسلكون أسلم الطرق للتعبير عن القهر الذي وعلى الرغم من عمقه لم يتحوّل إلى عنف جارف.

 

خرج المسؤولون على الناس بخطابات التهذيب الوقحة وللحديث بـ “اتيكيت التظاهر” ضدّهم، محاولين إلهاء الناس عن فداحة ارتكاباتهم مستخدمين “الأخلاق” حجة لضرب التحركات وأحقيّة المطالب. استخدم المسؤولون إذاً “الأخلاق” لأهدافٍ لاأخلاقية، ولحماية الفاسدين، وانتظر هؤلاء أن يهدأ الشارع ليطلقوا حملات القمع واستدعاء المحتجين عبر القضاء والأجهزة الأمنية على خلفية الشتم وكذلك التعبير عن آرائهم.

 

لكن، وبعيداً من المزايدات والتنظيرات الأخلاقية واستغلالها سياسياً، يمكن النظر إلى ظاهرة شتم المسؤولين من الناحية العلميّة والحقوقية، والبحث عن أسبابها النفسية والإجتماعية ووظيفتها في الحياة السياسية.

 

الوظيفة السامية… للشتم

 

في الحديث عن وظيفة الشتم، لفت المحامي نزار صاغية، إلى وظيفته الإجتماعية السامية. فغرّد قائلاً: “نحن في دولة زعماء لا يقبلون المحاسبة ولا المساءلة. وهذا أمر لا جدل فيه. العبور من دولة الزعماء إلى الدولة الديمقراطية لا يتم إلا من خلال تكسير أصنام هؤلاء أي قدسيتهم. هذه هي الوظيفة الاجتماعية السامية للشتم”. ويبدو واضحاً خوف المسؤولين من هذه الوظيفة تحديداً ومن تحطيم المقدسات التي تحاول بعض الأحزاب ترسيخها أكثر من سواها رافضة المسّ “بقدسية” زعيمها.

 

وكان نقيب المحامين ملحم خلف من أعاد فتح السجال حول موضوع الشتم. إذ فاجأ خلف المنتفضين الذين كانوا يحسبونه “نقيب الثورة” ببيان رفض فيه استخدام الشتائم والكلمات النابية، معتبراً أنه مخالف لأخلاقيات المجتمع. ورأى هؤلاء في موقف النقيب انزلاقاً إلى صفّ السلطة التي تريد تهذيب لسان الشعب. حتى أن بعض المنتفضين قد ذكّر كيف تحولت “الهيلا هوو” التي صدحت في الشوارع شاتمة المسؤولين لنشيد استقبال خلف في النقابة. وكان بيان خلف قد صدر بعد ضغوط تعرّض لها من داخل النقابة إثر تضامنه ودفاعه عن الناشط ميشال شمعون، الذي اعتقل بعد نشره تسجيلاً يشتم فيه رئيس الجمهورية ميشال عون وأمين عام “حزب الله” السيد حسن نصرالله.

 

وإن كان رجل القانون يستنكر الشتم، فإن منظمة العفو الدولية وبعد أن تمادت السلطات والأجهزة اللبنانية في مضايقة وملاحقة معارضيها بحجة الشتم والقدح والذم وغيرها من التهم المطاطة، قد أصدرت بياناً في 6 تموز الحالي تستنكر ما يجري وتلفت إلى مخالفته للقوانين الدولية. ووفق المنظمة فإن حرية التعبير تشمل الحق بالشتيمة، “كل تعبير صادم ومسيء للسلطات طالما لا يحض على التمييز والعنف حق يكفله القانون الدولي”. ورأت أن استخدام قوانين تجرم حرية التعبير يهدف إلى ترهيب المعارضين واسكاتهم وهذا الأمر يتعارض مع القانون الدولي. وأن واجب القضاء حماية حق الناس بالاعتراض وليس حماية السلطات من نقد الناس. وأن لا اختصاص للأجهزة الأمنية والعسكرية بقضايا التعبير، وإخضاع المدنيين للقضاء العسكري انتهاك للقانون الدولي.

 

لغوياً، وفي حديث إلى “نداء الوطن” تشير الباحثة في علم اللغات، فرح نصرالله، أن ظاهرة شتم اللبنانيين لمسؤوليهم قد خضعت لنقاش كبير بين علماء اللغويات والاجتماع بخاصة في فرنسا. “إذ إن كميّة السباب التي استخدمها اللبنانيون غير مسبوقة بتاريخ التظاهرات. ما يعني أن المعايير اللغوية للحوار قد سقطت، وأن الشعب يعتبر أن الطبقة التي تقف بوجهه غير قابلة للحوار ولا تليق بها إلا الشتيمة، فخرج الشعب عن منطق لغة الحوار”. ووفق نصرالله فإن الشعب يستخدم الإهانات بحق سياسييه كرد فعل على ما يعتبره انعدام الخجل لدى هؤلاء. “فهو يعبر عن انعدام الحياء في التصرف السياسي عبر القول بأنه لن يكون هناك حياء بطريقة التعبير عن هذا التصرف السياسي. فعندما يرى بأن أبسط حقوقه كإنسان قد انهارت وفقد أدنى مقومات العيش، يلجأ المواطن إلى الشتيمة باعتبار كل المقومات منهارة. إنها نوع من المقاومة الكلامية باللغة، تمرّد واعتراض على تصرفات معينة”.

 

الشتيمة لاسترجاع جزء من الحق

 

من الناحية النّفسية، وفي اتصال مع “نداء الوطن” ينظر المعالج النفسي الدكتور شادي رحمة، إلى الشتم على انّه تعبير عن الغضب والألم الموجود داخل الإنسان. “ويشكل الشتم فشّة خلق لأنه غير مقبول من المحيط وخارج المعايير الأخلاقية”. ويرفض رحمة وصف الشتم بأنه “حاجة نفسية”، لكنه يجده تعبيراً عن حاجة يسعى الإنسان عبرها ليخفف من الكبت والألم اللذين سببهما المسؤول، وليشعر وكأنه استرجع جزءاً من حقه أو بقليل من السيطرة على المشكلة. فعندما يشتم يشعر بأنه استطاع نوعاً ما تحقير هذا المسؤول وأخذ جزءاً من حقه، ولو بطريقة رمزية، وكأنه استطاع أن يسبب للمسؤول بعضاً من الألم الذي يشعر به منذ وقت طويل”.

 

ويشرح المعالج النفسي أن الشتيمة تُطلق نتيجة لعجز المواطن عن التعبير بطريقة واضحة عن الخطأ الذي ارتكبه المسؤول، فهو إن عبّر لا يجد من يسمعه. وبما أن الشتيمة نافرة بالنسبة إلى الأخلاق العامة، فإنها مسموعة. بالتالي وعندما يشتم المواطن يشعر بأنه أسمع صوته وعبر عن غضبه، حتى وإن شتم في محيطه الصغير”. ويفسّر هذا الشرح العديد من التصرفات والشتائم التي أطلقها المواطنون عبر الهواء مباشرة. فالمتظاهر الذي قال “أنا بديش وجّهلو رسالة” مرفقة بشتيمة، يظهر وكأنه مدرك جيداً طبيعة هذه السلطة التي لن تلتفت إلى رسالة أو مطلب، لكنها ستلتفت إلى المواطنين في حال شتموا لتهذّبهم. وكأنه بكلمته يقول لا مجال للحوار مع هذه السلطة، التي تريد للمواطنين وبالإكراه أن يقدّسوا المسؤولين.

 

إذاً وبناءً على شرح الأسباب، يُطرح السؤال عن تأثير قمع المواطن ومنعه من الشتم والتعبير عن أخطاء المسؤولين. وفي حين يلفت نفسانيون إلى فوائد الشتم للصحة النفسية، يشير رحمة إلى التأثير الكبير لقمع المواطن على صحته النفسية. “فمنع المواطن من التعبير عن غضبه يسبب الاحتقان الذي يدفعه للتعبير عن غضبه بطرق أخرى. وأحياناً يعبر المواطن عن غضبه بأن يصبح غير فاعل في المجتمع، وهو نوع من العدوانية، حيث يقتنع بعجزه عن فعل شيء ويتهرّب حتى من واجباته الاجتماعية. كما أن لقمع الشتيمة تأثيراً أكبر، إذ قد يعبّر الفرد عن غضبه بطريقة غير سليمة، كالتكسير والضّرب. “لذلك تسمح الديكتاتورية الذكية بالشتم، لكنها عملياً لا تسمح للإنسان بتغيير شيء. حتى في أميركا، يسمح للمواطن أن يشتم، لكنه يعجز عملياً أن يغيّر، وبهذه الطريقة ينفّس عن غضبه، لأن منعه من التنفيس يدفعه للقيام بأمور خطيرة”.

 

وينكر المسؤولون اليوم انّهم في موقع القوّة والسلطة، فيتمسكنون وكأنهم ندّ مع المواطن الذي يشتمهم. وبرأي رحمة فإن المسؤول شخص قبل بأن يكون في موقع خدمة للجميع، بالتالي عليه أن يتقبّل النقد بل ويجب أن يكون صدره رحباً كفاية ليتقبل الشتيمة لأنه وفي أوقات كثيرة لا يستمع أصلاً إلى الانتقاد. “أقل شيء أن يقبل المسؤولون بأن يُشتموا حتى وإن كانوا “أوادم”، فمجرد قبول أحد بأن يكون في موقع سلطة يعني أنه قبل بأن يكون في موقع تتذمر منه الناس ولا تحب ما يفعله أو يقوله، ويمكنه عبر القضاء أن يبرهن كذب الاتهام، في حال اتهم زوراً. وعلى المسؤول خلال تدريبه على تولي المسؤولية أن يكون جاهزاً لأن يكون صدره رحباً وأن يتذكر بأنه في موقع القوة ومن الطبيعي تقبّل هذا الشتم”.

 

من جال على الأرض في 17 تشرين وما بعدها، يدرك جيداً أن عدداً كبيراً ممن يصنفون مهذبين، وفق معايير المجتمع، قد شاركوا في الشتم أو أقلّه برّروه وفهموا ضمن أيّ سياق أُطلقت الشتيمة. في هذا الإطار، تشير رشا يوسف، إحدى المشاركات في التحرّكات أن لا شيء يحمّسها في خلالها بقدر ما يحمسها شتم السّياسيين. “ربما لعدم إيماني بأنّ شيئاً سيتغيّر وبسبب فقداني الأمل. شتم السّياسيين أضعف الإيمان وهو طريقة لفشّ الخلق بسبب القهر، إذ أصبح أكبر همومي وأنا في العشرينات أن أجد طعاماً، ولا أعرف متى سنعجز عن تناول الطعام”. وترفض يوسف اتهام من يشتم السياسيين بقلة التهذيب، “فأنا أعتبر نفسي مهذّبة، أتعامل مع الناس بلياقة واحترام ويصفني الآخرون بالشخص اللطيف. أناقش وأحاور من دون قلة أخلاق”. لكنها تشير إلى أهمية الشتيمة في التخفيف من ردود الفعل الأكثر عنفاً وهو ما أشار إليه رحمة أيضاً، “أشعر أنّ الشتيمة تريح كالبكاء. وهي أكثر ما يفش الخلق اليوم، حتى لو تفوّهت بكلام من دون معنى، فالشتم يغنيني عن تكسير الأشياء وربما عن ضرب نفسي”.