مرة ثالثة، فشلت المجموعات المدنية في قيادة انتفاضة تقود الى تشكيل معارضة وازنة يمكنها مواجهة حكم زعماء الطوائف. وثمة منظومة سياسية إعلامية تستغل هذا الضعف اليوم لتنطلق بمشروع يسوق للنأي بالنفس والحياد، بدأه البطريرك بشارة الراعي وتسير وراءه «الجبهة المدنية الوطنية» التي أطلقت نفسها الأسبوع الماضي من باب عودة «ثورة 17 تشرين»
لم يكد المجتمعون في فندق «الهيلتون» يعلنون عن إطلاق «الجبهة المدنية الوطنية» الأسبوع الماضي، حتى كشفوا عن برنامجهم «لإنقاذ لبنان». فيوم أول من أمس، نشر عضو في الجبهة وهو «ملتقى التأثير المدني» نداء استغاثة إلى وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان للتدخل في لبنان، نافياً في الوقت عينه أن يكون هذا النداء بمثابة استدعاء لتدخل خارجي. طلب «الوصاية» هذا نُشر في كل وسائل الإعلام المحسوبة على ما كان يُسمى سابقاً بـ«14 آذار»، والتي نشرت أيضاً يوم الخميس 16 تموز خبر إطلاق الجبهة في اليوم السابق. يومها، لم يعرّف المجتمعون عن أنفسهم، ولا ذكروا في المسوّدة الصادرة عنهم أي مجموعات تنضوي ضمن هذا اللقاء، ولا وسائل الإعلام التي غطّت هذا المؤتمر فعلت ذلك، بالرغم من تقديمها الجبهة على أنها البديل الذي تنادي به ثورة 17 تشرين. البديل الذي ظهر في «نداء» أول من أمس أنه يريد تحرير البلد عبر وضعه تحت الوصاية الفرنسية.
ليتبين أن هذه الجبهة، ليست سوى المجموعة التي نصبت لنفسها خيمة في موقف اللعازرية المحاذي لساحة الشهداء في وسط بيروت تحت اسم «The Hub»، المنبثق من اسم المجموعة التي كانت تديره أي ملتقى التأثير المدني (civic influence hub). أثارت الخيمة علامات استفهام عديدة حول مشروعها وبرنامجها، وتعرّضت للحرق عقب عقدها ندوة عن «الحياد» وتصريح أحد أعضائها آنذاك ويدعى لقمان سليم بضرورة «كسر تابو الصراع مع إسرائيل». لذلك قرّرت إعادة إنتاج نفسها اليوم تحت اسم جديد، نظراً إلى نفور غالبية الناشطين مما كانت تمثله هذه الخيمة. وجرى التسويق لها في وسائل إعلام 14 آذار على أنها البديل الذي يطالب به «الثوار» في محاولة للسطو على الانتفاضة. المجموعة التي أنشأت لنفسها صفحة على موقع «فايسبوك» منذ نحو 10 أيام، لم تنشر أيّ معلومات حولها، لكنها عمدت إلى نشر كل المقالات المكتوبة عنها في المواقع والصحف، ومنها خبر تنويه «لقاء الجمهورية» الذي يضم رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان صاحب إعلان بعبدا وحزب الكتائب بها. ويستحيل فصل توقيت ظهور الجبهة عن الحملة التي يقودها البطريرك بشارة الراعي و«ثوار الأرز» المطالبة بتطبيق «الحياد» وتتلاقى مع المشروع الأميركي لحصار حزب الله، إذ جاء في مسودة الجبهة ضرورة «النأي بلبنان عن صراعات الإقليم تطبيقاً لإعلان بعبدا الذي أضحى وثيقة دولية».
الجبهة المدنية الوطنية التي تقدم نفسها اليوم كبديل يحمل برنامجاً «إصلاحياً»، استفادت من فراغ الشارع وتشرذم مجموعاته التي لا تزال عاجزة عن إنجاز أي ائتلاف يحمل ولو ورقة اقتصادية يعوّل عليها. وقد أثبتت هذه المجموعات التي اختبرها اللبنانيون في عامَي 2011 و2015 واليوم، عدم قدرتها على قيادة أي انتفاضة، وأنها تتشارك وأحزاب السلطة الحاكمة بعدم قدرتها على الاتفاق ورغبة كل منها في الاستئثار بالحكم والكرسي. لكن المفارقة هنا أن هذه المجموعات المدنية تريد مواجهة السلطة الحاكمة. وهو ما أدى الى عدم تفاعل المواطنين مع الاعتصامات والمسيرات منذ رفع إجراءات التعبئة العامة. هكذا، تلفظ «النسخة التشرينية من الانتفاضة» التي حاولت بعض المجموعات قيادتها، أنفاسها الأخيرة، لا لشيء سوى أنها لم تواكب مآسي الناس وهمومهم. ترتفع الأسعار بشكل جنوني، يصل الدولار الى عتبة العشرة آلاف ليرة، يخوض بعض النواب معركة الاستيلاء على ودائع الناس وأملاكهم بالنيابة عن المصارف، يسقط الكابيتال كونترول، تدفن خطة الحكومة المالية، فيما جلّ ما تفعله هذه المجموعات هو تكثيف اجتماعاتها على تطبيق «زوم». وعندما يقرر البعض تنفيذ أي تحرك في الشارع، لا تواكبه كل المجموعات أو حتى معظمها، ويكون العنوان منفصلاً عن الواقع وفضفاضاً وتحت عنوان «كلّن يعني كلّن». اللافت هنا أن المجموعات الناشئة حديثاً باتت تطغى على المجموعات القديمة، وهي الوحيدة التي تنفذ نشاطات باتجاه الوزارات والمؤسسات. ثمة شباب يرغبون فعلياً بالتغيير، إلا أن الشارع خذلهم، على ما يقول بعض الناشطين وخصوصاً من كانوا يقدمون أنفسهم كرؤوس حربة في معركة إسقاط النظام وحفظ حقوق الناس، وعلى رأسهم «بيروت مدينتي» و«لوطني» و«المرصد الشعبي لمكافحة الفساد» والحزب الشيوعي و«شباب المصرف» و«الحركة الشبابية للتغيير» و«ائتلاف بناء الدولة». فهؤلاء ليسوا حديثين في العمل السياسي والاجتماعي والنقابي، غير أن تجاربهم المتكررة لم تنجح سوى في مراكمة الفشل تلو الآخر. الفشل على قاعدة «اتفقنا على ألّا نتفق». ويشير بعض الناشطين في هذه المجموعات إلى أن ما يحصل ساهم في «إخماد الانتفاضة ووهج التحركات، ولا سيما أن السياسة المعتمدة هي نيل رضى الأكثرية. وفي ظل وجود المئات خلال الاجتماعات، تتكاثر الآراء وتكون النتيجة تغليب الاختلافات على ما دونها». لذلك، كان من الضروري انتخاب لجنة صغيرة لصياغة القرار، والاستغناء عن «ميزة» اللاقيادة بتعيين وجوه ناطقة باسم مجموعات الانتفاضة حتى لا تُحمّل هذه الانتفاضة عناوين يطلقها أيّ كان، وآخرها ما جرى في اعتصام 6 حزيران الذي دعت إليه مجموعات بعضها مجهول النسب وأحزاب وشخصيات من ما كان يسمى بـ«قوى 14 آذار». البعض الآخر متفائل، ويعدّ اليوم برنامج تحركات الأسبوع المقبل ضد «المصارف ومن يمثلها في لجنة تقصّي الحقائق»، وإنْ بدا هذا التحرك متأخراً.
في موازاة هؤلاء، حلف نشأ حديثاً يضمّ من يطرحون أنفسهم كنواب مستقلين من سامي الجميل الى بولا يعقوبيان ونعمة افرام وشامل روكز. يعرّف عنهم أحد المسؤولين في المجموعات بأنهم «خط الدفاع الثاني عن السلطة الحاكمة». بمعنى أنهم وجهها اللطيف ووديعتها في الشارع التي لن تتوانى عن فعل ما يلزم عند الجدّ للحفاظ على مكتسبات السلطة ومكتسباتها بطبيعة الحال. التجربة الأخيرة مع الجميل ويعقوبيان كشفت جزءاً من هذا المشهد. فقد أجرت المجموعات اتصالات بالنائبين لتحفيزهما على طرح الثقة برئيس مجلس النواب نبيه بري، وخصوصاً أنه يمكن بحسب المادة 44 من الدستور «ولمرة واحدة، بعد عامين من انتخاب رئيس المجلس وفي أول جلسة يعقدها، أن ينزع الثقة منه بأكثرية الثلثين من مجموع أعضائه بناءً على عريضة يوقّعها عشرة نواب على الأقل». حصل ذلك قبل أيام من اليوم المحدد للجلسة أي 28 أيار، غير أن سامي تذرّع «بعدم القدرة على تأمين أكثرية نيابية لهذا الغرض من دون أن يحاول حتى، وتخوّف من منعه من دخول المجلس مرة أخرى». إذ يريد نائب بكفيا، وفق الناشطين، «أن يستمتع هو بهواء المجلس النيابي البارد، فيما يتعرض المعتصمون في الخارج للضرب من شرطة المجلس. باختصار، يريد استعمالنا عندما يناسبه والنطق باسمنا ولكنه يقف في صف السلطة ويحميها.
المجموعات المدنية باتت عاجزة عن استقطاب الناس إليها، فيما تنفرد المجموعات الناشئة حديثاً بتنظيم النشاطات
هو جزء من هذه السلطة، وامتنعنا كمجموعات عن التنسيق معه، لكنْ ثمّة من يغرّد منفرداً وفي السرّ حتى يضمن لنفسه كرسيّاً إذا ما تبدّلت الأوضاع». أما يعقوبيان، فقد «ساندت سامي في حجّته، وأكّدت ضرورة بقاء بري في منصبه حتى لا يتسلّم هذا المنصب أحد المحسوبين على حزب الله». وبات واضحاً لبعض المجموعات أن حلف النواب المستقلّين «يتسلّق انتفاضتهم» بعد طلب النواب «تسلّم دفّة المفاوضات السياسية، على أن يكتفي الناشطون بتنسيق التحركات في الشارع».
على المقلب الآخر، ثمّة من قدّم منذ الشهر الأول للانتفاضة برنامجاً تغييرياً متكاملاً، بصرف النظر عن تفاصيله. فقد أعلنت حركة «مواطنون ومواطنات في دولة» السياسية عن برنامجها خلال الشهر الذي تلا انطلاق الانتفاضة. وفيما تعجز النشاطات الباقية عن جذب الناس إليها، شارك عدد كبير (نسبياً) من المحتجين في التحرك الذي نظمته الحركة وجبهة الانقاذ الوطني وحراك العسكريين المتقاعدين، يوم الجمعة الفائت في وسط بيروت.
وحدها «مواطنون ومواطنات في دولة» قدّمت برنامجاً متكاملاً للتغيير
وإلى جانب الأمين العام للحركة الوزير السابق شربل نحاس، كان للنائب شامل روكز خطاب في التحرك. لكن لماذا روكز؟ يجيب مفوض العلاقات السياسية في حركة «مواطنون ومواطنات في دولة»، معن الأمين أن «النقاش مع روكز وصل الى مراتب متقدمة، وبات خطابه متشابهاً الى حدّ بعيد مع طروحاتنا». إذ يصعب عقد أي ندوة أو نشاط مع «من يحمل طروحات مختلفة لأن ذلك يساهم في إضعاف النشاط وإنهائه قبل أن يبدأ». والحركة مستمرة بعقدها لقاءات علنية وغير علنية مع عدة مجموعات لنقاش برنامجها والتحاور حوله. وفيما بنت الحركة أرضية مشتركة مع الكتلة الوطنية، فاجأ الأمين العام للكتلة الجميع بإعلان أسماء رئيس وأعضاء حكومة مقترحة من الكتلة نفسها. على الأثر، أصدرت «مواطنون ومواطنات في دولة» بياناً أعلنت فيه تواصلها الحثيث منذ أشهر مع الكتلة وأمينها العام ومع قوى وشخصيات أخرى تحضيراً لإعلان ائتلاف سياسي وازن يشكّل بديلاً من «سلطة زعماء الطوائف العاجزة، فيفرض تفاوضاً على انتقال سلمي للسلطة الى حكومة انتقالية بسلطة تشريعية تحمل مشروعاً سياسياً واضحاً مرتكزه الشرعية المدنية للدولة». وأكد البيان أن «إعلان الكتلة يخالف قواعد العمل السياسي المشترك»، ما يعني ضمنياً فضّ «التحالف» معها.