«الثورة لا تولد إلا من رحم الأحزان» مهما اختلفت الروايات حول قباحة وتفاهة ما جرى في الإحتفال الغنائي لعيد الجيش. المواطنون في لبنان ليسوا بحاجة الى شروحات، هم يدركون بحدسهم ما يجري حولهم، ومن يقف وراء الفشل المتمادي والأفكارالتي لا تدل سوى عن ضيق أُفق أصحابها. ما جرى في عيد الجيش ليس اعتداءً على عمل فني أنجزته قامات فنية لها تاريخها الفني والوطني فقط، بل إعتداء على ذاكرة اللبنانيين وإرثهم وعنفوانهم ، وإعتداء على الملكية الفكرية التي يحميها القانون وحرية التعبير التي يكفلها الدستور، وهي قبل كلّ ذلك إعلان فاضح لفرض رقابة خانقة تريد ترويض الموروث الفني ووضعه بخدمة توجّه سياسي أضحى خارج العصر. إنّ التوجّه الجديد نحو الشرق الذي أعلن عنه حزب الله ورحّبت به الحكومة، لا يأبه بالإستفادة من التجربة الصينية في الثورة الرقمية أو برفع معدلات النمو أو بالتطور الصناعي الروسي في مجال الكهرباء،بل أنّ جلّ ما يريد أصحابه من هذا الشرق هو استنساخ المزيد من القمع والرقابة وأزليّة الزعماء وإلغاء المؤسسات.
نجح ناصيف حتّي في الخروج من هذه السلطة المخطوفة وهيكلها المتداعي. لا يستدعي التهميش والإقصاء المتمادي الذي تعرّض له الوزير حتّي قرائن إضافية للدلالة على نماذج الوزراء الدمى الذين يقادون من الخلف في أكثر من وزارة ، كما لا تستدعي استعراضات البذاءة المتبادلة بين الوزراء الذين يحتكمون لحزب الله في كلّ التفاصيل،والإتهامات على وسائل الإعلام قرائن إضافية للدلالة على التبعيّة الأمنية للوزراء.كلمات حتّي بعد الإستقالة حول غياب لبنان الذي نعرفه وانزلاقه للتحوّل لدولة فاشلة هي شهادة حيّة على مرارة التجربة، التي يُلام على دخولها، وعلى انسداد الأفق. وإنّ اتّهامه الحكومة بغياب الرؤية وإقصاء لبنان عن دوره العربي والدولي وغياب الإرادة في تحقيق الإصلاح الهيكلي الذي يدعو له المجتمع الدولي هو أكثر من دلالة على أداء حكومي يُقاد عنوةً ويتنازعه مجموعة من قراصنة السلطة.
إنّ مسارعة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس الحكومة لتعيين بديل للوزير المستقيل تدل إنّ الأولوية ليست لمراجعة الأداء ووقف الإنهيار، بل لملء المقاعد واستكمال القيادة من الخلف والإحجام عن المبادرة بالرغم من كلّ المستجدات المرتقبة، لا سيما في موضوع المحكمة الدولية وملف التجديد للقوات الدولية المؤقتة في لبنان. ناهيك عن الملفات التي تتعامل معها الحكومة بتعنّت لمواجهة صندوق النقد الدولي وخصومها السياسيين والمجتمع المدني، كملف الكهرباء الذي يشكّل عنواناً للفساد ويتشكّل حوله تحالف سياسي يقوده حزب الله وفريق رئيس الجمهورية. أما ملف سدّ بسري الذي يجمع العديد من المنظّمات والخبراء في مجالات البيئة والتربة على ضرورة وقفه واللجوء الى بدائل متوفرة وأقل كلفة، فقد أدخله حزب الله خلال الأسبوع المنصرم على لائحة ملفات المواجهة مع من يجب تطويعهم من السياسيين وفي مقدّمتهم وليد جنبلاط ، ليحلّ الى جانب ملف الحياد الذي أعلنه البطريرك بشارة الراعي والذي لاقى تجاوباً لبنانياً ودولياً أخرجه من جدران الكنيسة المارونية ليصبح ملفاً لبنانياً بإمتياز يحميه الدستور.
تعتمد الحكومة في كلّ أدائها على تحويل الملفات البيئية والخدماتية والسياسية أو تلك المتعلّقة بالفساد الى ملفات بتصرّف الإصطفاف السياسي الذي يقوده حزب الله، وبهذا المعنى وضع الجميع في مواجهة حتميّة مع السلاح. كما تعتقد إنها قادرة على ابتزاز المجتمع الدولي من خلال وضع ما تبقى من لبنان في الأسر ومن تصنفه حليفاً للمجتمع الدولي. وهذا يعني إستنساخ تجربة 14 و 8 آذار ووضع المعادلة أمام من يهمه الأمر، وتجاوز حركة الإعتراض التي تشكّلت على خلفيّة ثورة 17 تشرين الأول والتي أصبحت شريكاً وازناً في القرار وقاطرة لبعض الأحزاب في كثير من المواقف.
إنّ هذه المقاربة تحتمل العديد من المغالطات. إذ إنّ ظروف استدراج المجتمعين العربي والدولي الى المستنقع اللبناني غير متاحة وقد سبق معاينة ذلك والتأكد منه. لقد قدّمت التطورات الميدانية التي حصلت في مزارع شبعا خلال الأسبوع المنصرم، بصرف النظر عن حقيقة ما جرى، مثالاً لعدم إكتراث المجتمع الدولي بالإستقرار على الحدود. وربما يكون ذلك أحد أسباب تنصلّ حزب الله من علاقته بما جرى واقتصار بيان الجيش على موضوع القصف الذي طال الداخل اللبناني. وقد تندرج في نفس السياق عملية التسلل الموثّقة والفاشلة التي حصلت ليل أول من أمس في الجولان السوري والتي لم تستحوذ على أي اهتمام دولي أو تعليق من مجلس الأمن. كلّ هذا يعني أنّ المسار الدولي للتعاطي مع مسألة الإستقرار في الجنوب اللبناني ذاهب نحو قواعد جديدة، وإنّ الإشتباك السياسي الداخلي أو الأمني لن يتحوّل قضية دولية.
قد تصحّ مراجعة ما ورد في قصيدة « يا ست الدنيا يا بيروت» للشاعر الكبير نزار قباني الذي وجد في بيروت متنفساً لحرية افتقدها، فرحم أحزان بيروت التي دعاها للثورة كان تعبيراً راقياً عن بؤرة المعاناة لمدينة عاش مثقفو العالم العربي على تاريخها وتراثها ودورها وحداثتها. أرحام أحزان اللبنانيين ومعاناتهم الآن قد تفوق خصوبتها وثورتها مخيّلة نزار وهي لن تبالي بمن يعبث بإحدى عبارات قصيدتها.