يوماً بعد يوم يتبيّن أننا أضعنا وقتنا في مطالبة السلطة بالإصلاح. هي، برؤوسها وأذنابها، ملح فاسد. لا حسَّ مسؤولية ولا ما يفترضه الحد الأدنى من الأخلاق، فكيف لفاقد الشيء ان يعطيَه؟
ربما حان الوقت ليدرك من ثاروا في 17 تشرين، والذين سبقوهم الى التظاهر بعشرات الآلاف في 2015، والمطالبون بالتغيير على تنوّع المشارب والآراء، ان نياتهم الحسنة ومطالبهم المحقة وغضبهم الساطع ضد الفساد و”حكم المصرف” وتخلف النظام السياسي، ليست العنوان الصالح للخلاص من منظومة النهب والارتهان.
بلا شك، كانت الأوضاع المزرية ونُذُر الانهيار محركاً لخوض تجربة اعتراض ديموقراطية في الشارع، وشكلت انتفاضة الجيل الجديد من تلامذة مراهقين وشبان جامعيين وأهال موجوعين بارقة أمل بولادة جديدة للبنان خصوصاً بعدما رفعوا شعارات المواطنية الجامعة وتجنبوا الانقسامات. بيدَ ان المنظومة الفاسدة استطاعت عبر احتراف الخديعة والعنف الرسمي والميليشيوي تبديد الحلم ومنع التغيير، حتى بالحد الأدنى الذي ينقذ ماء وجهها ولا ينتزع منها هيمنتها.
سقط شعار “كلن يعني كلن”، ليس لأنه رومانسي وغير عادل بحق أحزاب وحزبيين غير ملوثين فحسب، بل لأن “الثورة المضادة” محصنةٌ بقوة ومناعة تجعلانها قادرة على احباط اي محاولة تغيير، وتمتلك من عقلية الالغاء “مخزوناً استراتيجياً” يدفعها بدم بارد الى ارتكاب تخيير اللبنانيين بين عيشة الذل أو الخراب العميم. ولماذا نستغرب؟ نماذج صدام حسين وبشار الأسد ومعمر القذافي وعلي عبدالله صالح وعمر حسن البشير و”الثورة الخضراء” في ايران، ماثلة في الأذهان، وذهنية المنظومة الحاكمة ليست “أنظم” من سلوك أي من المذكورين حكاماً أحياء أو سجناء أو في دار البقاء. وما انعدام رد الفعل على “إبادة الأشرفية” سوى التعبير الواقعي عن نوعية القوى السياسية، التي شاءت الأقدار النحيسة ان نعيش في ظلها فتقتل حاضرنا وتعبث في مصائرنا ومستقبل أجيالنا.
لم يكن خافياً أن جوهر الموضوع وطني مصيري، وأن لا علاج لموظف فاسد في وزارة أو ردعَ لمتنمّر في حي او قمعَ لاستيلاءِِ على مشاع وتلويث نهر، أو تنفيذ أحكام في خلاف عقاري إن لم تحل مسألة اعتقال الشرعية ومنع قيام دولة القانون والسيادة… حاولت قوى الثورة، مثل أطراف سياسية عدة، تأجيل الموضوع، تارة عبر تحييد السلاح وطوراً عبر “ربط النزاع” او الدعوة المستمرة الى “استراتيجية دفاع” و”نأي بالنفس”، لكن “فالج لا تعالج”، حتى قطع البطريرك الراعي الشك باليقين فأعلن “مذكرة الحياد النشط” التي تختصر كل العناوين.
عبثاً تبحث الثورة عن شعار مفيد أو صياغات ذكية لطروحات تعيد اليها الزخم وتؤدي الى محاربة الفساد وتطوير المؤسسات من غير ان تستفز المتمسكين بالسلاح والمحور الاقليمي، فكلها اصطدمت وستصطدم بعقبة استعادة السيادة على الأرض والقرار. وتجاوز العقبة متضمَّن حُكماً في مشروع الحياد، وهو لا يحتاج الى جهد ضائع لاجتذاب بيئة “الثلاثية الذهبية”، ولا الى “اجماع” لأنه مشروع مقاومة لتحرير الدولة والقرار. وكما كان أمين عام “حزب الله” محقاً في انه لم يكن هناك اجماع على المقاومة ضد اسرائيل ولم تكن هي بحاجة الى ذاك الاجماع، كذلك فإن المقاومة لتحقيق الحياد والعيش الآمن بلا ارتهانات و”نيترات” لا تحتاجه على الاطلاق.