تكثر هذه الأيام المبادرات من قبل مجموعات حراك 17 تشرين لتنظيم الذات وتأطير جهود المجموعات المختلفة في لحظة دقيقة من عمر الإنتفاضة الشعبية والبلاد.
هي مهمة صعبة نتيجة المروحة الواسعة من مجموعات الإنتفاضة وشخصياتها وتعدد توجهاتها وتناقضها في بعض الأحيان، لكنها محاولات لإبقاء جذوة الثورة مشتعلة في النفوس في وجه منظومة سلطوية بات واضحا أنها قد إلتقطت أنفاسها محاولة العودة الى مرحلة ما قبل 17 تشرين.
ليس أمر تلك المبادرات مقتصراً على منطقة واحدة أو حيز جغرافي معيّن، وهو جهد تُعنى به المجموعات كافة تحت عناوين متعددة ليس ذلك المتعلق بحكومة الثورة أحدها هذه المرة بالنسبة الى مبادرة «درابزين» التي تحاول تقديم ما هو جديد هذه المرة.
ويشرح أحد منظمي المبادرة المحامي جورج عازار لـ«اللواء»، «فكرة درابزين التي إنطلقنا منها ومؤداها التمسك بمبادىء 17 تشرين التي تمثل نقيضا لبشاعة النظام والطائفية والفساد، وهي تمثل عكس ما جاء به تاريخ 4 آب».
يشير الى أنه نداء موجه من أكثر من 70 هيئة في الانتفاضة للتمسك بالمبادىء التي وحدت الناس في الساحات من كل المناطق، وهي دعوة الى محاسبة الطائفيين الذين إرتكبوا وسرقوا وأوصلوا البلد الى ما هو عليه.
لكن ما الجديد؟
إلتقت تلك المجموعات تحت لواء مبادىء عامة مشتركة ضمن فضاء واسع ولم تحشر نفسها في اطار برنامج جامد. والجديد هدفه إنتاج نقاش جدي ومفيد حول برامج أهمها الانقاذ المالي والاقتصادي للبلد. يقول عازار.
لا شك أن هبوب وباء «كورونا» قد أعاق جهود المنتفضين وساهم في كسر اندفاعتهم التي شكلت الأسابيع الاولى للانتفاضة أوجها. لكن المهم اليوم بالنسبة الى تلك المجموعات هو التنظيم والاستمرارية، وسيطلق مبادرو «درابزين» نداء مصورا من أكثر 14 ساحة، وستكون مرحلته التالية تشكيل لجان من كل المناطق تدرس مضمون النداء وتنطلق به في هذا الظرف الدقيق.
وسيوفر النداء، حسب المنظمين، فضاء واسعا مع مبادىء عامة حول العدالة والمساواة واللاطائفية بعيدا عن تشكيل جبهة سياسية يسعى إليها البعض في الحراك، إذ أن القيمين على المبادرة لا يريدون التقيّد ببرنامج ما.
ويتوقف النداء طويلا عند إنهیار البلد في شكل متسارع نتیجة لسیاسات المنظومة الحاكمة بكل مكوّناتها وبقافلة حكوماتها المتتالیة منذ عقود وصولاً الى الجریمة في 4 آب التي دلّت على تخليّ مؤسسات الدولة مثل وزارة الأشغال والمالیة والجمارك والأجهزة الأمنیة وغیرها عن أبسط مسؤولیاتها.. وهو ما يلقي مسؤولية على المنتفضين للإلتقاء حول 17 تشرین وقیمها وتحصینها باعتبارها محطّة في مسار نضالي شعبي تراكمي ولتحویلها إلى مشهد سیاسي دائم في المئویة الثانیة من تاریخ الجمهوریة، كما جاء في إعلان المبادرة.
وتبدو المسؤولية كبيرة على الحراكيين لتقديم بدیل مقنع وقادر على إحتضان الفئات الشعبية المعترضة وهي الأكثرية، في وجه فئة ضیقّة تستفید من النظام الظالم ولا تأبه لا بل تساهم في الانفجار المالي والاقتصادي والاجتماعي، علما أن الفساد هو الوجه المتورّم لهذه المعادلة والسیاسات المفلسة.
التنظيم الذاتي
بالنسبة الى القائمين على «درابزين»، فإنها اليوم مرحلة التنظيم. ذلك أن أية تغيرات سياسية في العالم وأي عمل سياسي ناجح ومنتج كان وراءه تنظيم الذات، كما يؤكد عازار.
وفي الوقت الذي تنشغل فيه مجموعات في الحراك الشعبي في أعمال الإغاثة «الذي تغيب عنه الدولة»، فإن هؤلاء معنيون بمواجهة الإنهيار الحاصل ومقاتلين منظومة السلطة باللحم الحيّ على حد تعبير عازار. إذ أن تلك المنظومة تواجههم بالعنف والقضاء والإعتقالات والإعتداءات والقمع بواسطة قوى الأمر الواقع كما يؤكد هؤلاء. وتحمیل الناس لكلفة الانهیار المالي والاقتصادي، وإعتماد سیاسة إعفاء تحالف سلطة المال وأحزاب الطوائف من تبعات النهب والخیارات الكارثیة التي إرتكبها ویرتكبها. كما عبر القبض على مفاصل الدولة، ومنع أي محاولة لتغییر أو حتى تعدیل النظام الطائفي، عبر تعمیم المحاصصة، وافتعال مواجهات طوائفیة ودفع البلد إلى صدامات أهلیة بین الناس. إضافة الى تسهیل استباحة السیادة اللبنانیة وترك البلد ساحة مفتوحة لضغوطات القوى الإقلیمیة والدولیة وتدخّلاتها في الصراعات الداخلیة وضد المصلحة الوطنیة.
رفض السلطة موالاة ومعارضة
يؤكد عازار على الإيمان بأن ما يجمع تلك الفئات الشعبية أكبر وأوسع بكثير من الاختلافات، وثمة مسؤولية كبرى ملقاة على عاتق المنتفضين من الفئات المختلفة في ظل مرحلة يُخشى فيها على الوطن كیاناً ودولة ومجتمعاً من خطر زوال.
وأهداف المنظمين في «درابزين» محددة وقائمة أولاً على ضرورة العمل في هذه المرحلة الانتقالیة الحاسمة لصیاغة برنامج یمثل مصالح الشعب اللبناني مبني على حاجاته الآنیّة والمستقبلیة. ويكون قائما على وقف تداعیات الانهیار المالي والاقتصادي والاجتماعي والبیئي، عبر خطة إنقاذیة شاملة عادلة في توزیع الخسائر بین المتسببّین في الانهیار والمستفیدین منه وضامنة للأمن الغذائي والسكني والصحي والتعلیمي وودائع الناس.
ويدعو الإعلان الى «تبنيّ التغییرات السیاسیة والمجتمعیة العمیقة المطلوبة لتشقّ الطریق نحو دولة مدنیة دیموقراطیة حدیثة، تصون الكرامة الإنسانیة لكافة الفئات المهمّشة وتضمن المساواة». ويطالب بـ»تطبیق المواد الدستوریة (و/ أو تعدیلها حسب الأصول) مما یضمن فصل حقیقي للسلطات وإقرار قانون استقلالیة القضاء كمدخل لإعادة بناء مؤسسات دولة المواطنة. وتكریس الدفاع عن الحریات العامة والخاصة وصیانتها مقابل دولة القمع والترهیب. والتحول إلى اقتصاد متوازن ومنتج وقائم على التنمیة البیئیة والمستدامة ویمنع تشكّل الاحتكارات ویؤمّن العدالة الاجتماعیة. والتعاطي مع الخارج إنطلاقاً من سیادة الدولة والمصلحة الوطنیة العليا».
يشدد القيمون على المبادرة على ضرورة العمل سویاً، في القوى السیاسیة المعارضة وفي النقابات والقطاعات المهنیة وفي المناطق والاغتراب، لتوفیر الملتقى الدیموقراطي الضروري، من دون إعتبار ذلك إئتلافا أو جبهة أو في المقابل مجرد عريضة للتوقيع. وترتكز المبادرة على فضاءات سياسية ومناطقية ومهنية وفردية وإغترابية، على طريق تأسيس نوعا من العقد بين الهيئات المشاركة بعيداً عن أجندات سياسية وطائفية فوقيّة ومتسرّعة حتى لو كانت معارِضة، على أن تنطلق من النواة الشعبية على الأرض لتحقيق مشروع بناء «القوّة الثالثة» في الحياة السياسية اللبنانية.