تظاهرة بعبدا تعيد تظهير أهمية «كلن يعني كلن»
هل وصلت الرسالة التي أراد الشعب إيصالها إلى رئيس الجمهورية ميشال عون من خلال التظاهرة المنددة بسياسات العهد وممارساته وشعبوياته؟ هل سمع ساكن القصر هتافات الناس وأوجاعهم ومآسيهم؟ وهل يدرك أن مَن تظاهر ضدّه إنما يمثلون أكثرية غاضبة، حانقة، ومتألمة خسرت حتى الأمل؟
أغلبُ الظن أنه لم يفعل، ولن يفعل. لكن المهم في مشهدية السبت أن الثورة صوّبت بالاتجاه الصحيح، وحدّدت أصل المشكلة وطريق الحل، اختصر الثوّار كل الكلام، وكل المشكلات، وكل العلل بالإشارة الى أصل المشكلة؛ عهد البؤس والنحس والجوع والإفلاس والتضييق على الحريات والموت الجماعي، وأن رحيل رئيس الجمهورية مدخل ضروري لاستعادة الانتظام وخوض طريق الإنقاذ… وأنه بات من الضروري الإقلاع النهائي عن كل التبريرات والأوهام التي تعرقل الانتقال الفعلي والحقيقي بلبنان من الحضيض الكارثي، والفشل، والتفكك والتخلي عن السيادة الذي يقبع فيه إلى مرحلة العودة لاحترام الدستور ومباشرة الإصلاح الحقيقي ومحاربة الفساد والمحاصصة وتغطية المتورطين.
السلطة وسياسات دفن الرأس بالرمال
الواقع أنه بعد انفجار 4 آب، وحريق 10 أيلول.. لا يحق للسلطة أن تلجأ إلى مزيد من الوقاحة والتجاهل ودفن الرأس بالرمال، أولا من خلال محاولات مغمغة التحقيقات، وثانياً من خلال السماح لنفسها بقمع المواطنين واستخدام الجيش في ذلك، فما جرى في المرفأ في 4 آب هو جريمة إبادة وليس حادثاً يمكن لفلفته تحت أي ذريعة أو سبب.
في المسألة الأولى، انتظر اللبنانيون بعد مأساة المرفأ استقالة مسؤولين، وإقالة موظفين ومحاسبتهم للإهمال والتقصير، وربما التواطؤ، فإذا بمجريات الأحداث تثبت العكس.. مماطلة في التحقيقات، احتجاز «خمس نجوم»، وتمارض ونقل للمستشفيات!! وفوق ذلك عرقلة مرسوم وضع أحد الموظفين الموقوفين في تصرف رئاسة مجلس الوزراء بحجج وأعذار صادمة!
ثمة أسئلة كثيرة وكبيرة، تتعمق يومياً حول الغاية من عرقلة عمل العدالة، وهناك أمور عديدة تستحق التوقف عندها، مما يخافُ أهل السلطة في حال تمّ توقيف ومحاكمة المتورطين والمهملين والمقصّرين؟ هل هناك أمور وملفات وممارسات يخشون افتضاحها؟
تشكيل الحكومة أو عدمه لن يكون استجابة للشعب أو لحل الأزمة بل لحسابات أخرى
في المسألة الثانية، لمصلحة من التدرّع بالجيش ضدّ مواطنين عزّل، بينهم أهالي ضحايا؟ ومن أعطى الأوامر بإطلاق النار على مدنيين يعبّرون عن موقف ورأي وصرخة وجع؟، فوق ذلك، هل يتورّع من يقوم بكل ذلك، عن التضحية بمستقبل لبنان واستقراره بتفخيخ المبادرة الفرنسية وعرقلة تشكيل الحكومة ويدخل البلد في أزمات متتالية لإعادة إنتاج نفسه؟
ما بين واشنطن وباريس
المهم أن المسألة اللبنانية باتت حاضرة بقوة في جدول الاهتمام العالمي. موقف وزارة الخزانة الأميركية غداة بدء إصدار لوائح العقوبات على المسؤولين اللبنانيين والتي ستتواصل تباعاً من أن «شعار (كلن يعني كلن) يعكس جدية اللبنانيين بمطالب الإصلاح»، ومن ثمّ موقف منظمة العفو الدولية بأن «التحقيقات في انفجار المرفأ غير شفافة وليست محايدة» وغيرها من المواقف، يعزّز هذا الأمر، ببساطة، لا دول العالم ولا المنظمات الدولية تثق بطبقة اعتادت بيع الأوهام وتسويق الخرافات. خلاصة القول إن لبنان يغرق في بحر من العقوبات والعزلة والإهانات، لا المجتمع الدولي يصدق أكاذيب طبقته السياسية ولا الشعب أصلاً يصدقها. لن يستطيع هؤلاء تشكيل حكومة انقاذ، حتى لو قدّم الرئيس المكلف مصطفى أديب تشكيلته على قواعد النزاهة والكفاءة واستعادة الثقة، وأغلب الظن أنهم سيعمدون من دون شك إلى تفخيخ مساعيه لتطبيق أي رؤية إصلاحية، وكل الكلام المعسول المتذاكي الذي يقال عن التسهيل يراد منه عكسه.
هل ستتشكل الحكومة بعد العقوبات الأميركية واتصال ماكرون بالرئيس برّي؟ هناك رأيان، الأول يذهب إلى أن الطبقة السياسية ستسمح لمصطفى أديب بإعلان حكومته رداً على خطوة واشنطن، وليس حباً أو مجاملة للفرنسيين، ويذهب الرأي الآخر إلى أن الحكومة لن تخرج على الإطلاق لحين ظهور نتائج الانتخابات الأميركية، ليبنى على الشيء مقتضاه… أما مآسي اللبنانيين وجوعهم وإفلاسهم فأمر آخر.
مدخل الحل.. استقالة مشرّفة
على المجتمع الدولي أن يَعي أنه قبل المبادرة الفرنسية وزيارات ماكرون، كما بعدها، وقبل الانتخابات الأميركية، كما بعدها، وقبل إعلان التشكيلة، كما بعدها، وقبل انفجار بيروت الكارثي ومن بعده الحريق الغامض، كما بعدهما.. لا خلاص لهذا البلد في غياب السيادة، والمشاريع الخارجية، وأطماع الشعبويين والوقحين من رموز هذا العهد.
لم ينس الشعب النعوش البيضاء لضحايا كارثة المرفأ.. لكن الطبقة السياسية فعلت.
لم تنس العائلات المفجوعة مآسيها وأشلاءها وسقوفها المهدمة وجنى أعمارها ال.. لكن الطبقة السياسية فعلت.
جلّ ما تتذكره هذه السلطة وتحرص عليه كيفية التهام المساعدات، وتأمين مخارج للموقوفين وتمييع التحقيق.
من منطلق الحفاظ على ما تبقى من الدولة ومؤسساتها، وإمكانية إقناع المجتمعين العربي والدولي بمساعدة للبنان للنهوض من جديد.. على رئيس الجمهورية الاستقالة من دون انتظار مزيد من غضب الناس وضغط الشعب. الاستقالة إلى كونها تحفظ ماء الوجه هي، من دون شكّ مصلحة وطنية خالصة، وفوق ذلك، تؤمّن مخرجاً مشرفاً ولائقاً للرئيس عون لإنهاء هذا العهد البائس بأقل الخسائر، وتفتح ثغرة كبيرة ومهمة في جدار الأزمة.. وربما تشجّع آخرين من الطبقة السياسية المتحكمة ليحذو حذوه في فتح الطريق أمام إنقاذ البلد، بعد وقف حالات الإنكار والمكابرة.
تحمّل اللبنانيون كثيراً بأن يحكمهم طائفيون، حاقدون، فاشيون، فاشلون، وناهبون.. لكن الاستمرار بذلك بات شبه مستحيل… الشعب لم ينسى ولن يسامح وعلى الثورة أن تراكم خطواتٍ صحيحة.