كتبت عن حدسي بالثورة وأنا في الأربعين. لم يكن لها في ذهني صورة معيّنة، لكنّني حلمت بها وانتظرتها “حتى يبست قدماي بانتظارها”، بحسب الشاعر محمد الماغوط، حين قصدها بقوله: “من أجلها أحصي أسناني كالصيرفي، أداعبها كالعازف قبل فتح الستار. بمجرّد أن أراها وألمح سوطاً من سياطها أو رصاصة من رصاصاتها، سأضع يدي حول فمي وأزغرد كالنساء المحترفات”.
دفعت ثمن هذا الإنتظار “ظلم ذوي القربى” ممّن تحوّلوا إلى معسكر المُمانعة. كانت صورتها في ذهني هيولى، مادة لا شكل لها ولا صورة معيّنة. في اليوم الثالث للثورة، كنت في قطاف الزيتون حين رنّ هاتفي المحمول ليسألني كريم مروه ـ أطال الله في عمره ـ رأيي بما يحصل. قلت له واثقاً إنّها الثورة. لم أقل له حدساً، بل يقيناً كان قد تملّكني منذ قال الربيع العربي كلمته ضد الإستبداد. نعم، هي ثورتنا اللبنانية ضدّ الإستبداد، ضد صيغة منه مُقنّعة بصناديق اقتراع مُعلّبة، وبحرب أهلية وبنظام لم يكتف حكّامه بالسطو على ثروة البلاد، بل تحاصصونا واختلسوا حرّيتنا.
من حقّي أن أفرح وأقول مُستأذناً أبا نواس “لي نشوتان وللثوار واحدة”. هم صنعوها وأنا حدستها قبلهم وكتبت عنها. من حقّنا أن نفرح بالثورة ونُزغرد لجيل من اللبنانيين حبّاً وإعجاباً بابتكاراته وإبداعاته في صياغة حلمنا بوطن جديد، وبرفعه علَماً وحيداً جعلته يرفرف على شرفة منزلي في المدينة، وعلى سطح بيتي الريفي، ضدّ أعلام فئوية مزّقت وحدة الوطن وتوزّعت سيادته أشلاء، باسم الوحدة والإشتراكية وقداسة الحاكم والقضايا القومية والأممية.
من واجب كلّ منّا أن يشارك “كلّ حسب طاقته”. لم أتوقّف عن الكتابة عنها منذ ولادتها. كنت أشدّ على أيدي من يتضامن ومن يساند، إلى أن أبلغني بعض أصدقائي عتباً على مضمون الإشادة بمواقف قيادات سياسية ودينية من الثورة، وبعضهم على شكل التعبيرعنها. قلت لهم إنّ الإشادة ذاتها بموقف الرئيس الفرنسي توضح أنّ شكل التعبير عنها هو من المحسنات البديعية، وهو في علم البلاغة تشبيه ضمني. غير أنّ العاتبين أنواع وأصناف.
نستأذن الطبّ العربي ونستعير عنوان ديوان شعري لأحمد بيضون، لنقول إنّ “الأخلاط والأمزجة” تفعل فعلها في صياغة المشاعر بين الأفراد، ورسم حدودها بين حبّ وكره وإعجاب ونفور، وغير ذلك ممّا يعبّر عنه المرء بمواقفه وسلوكه ولغته وقسمات وجهه. قال لرفيقه بأنّه متردّد في انتخاب ذاك المرشّح، مع أنّه يشارك في حملته الانتخابية، وعذره أنّ المرشح يشبه ممثّلاً سينمائياً مشهوراً بتمثيل أدوار الإجرام. حتى في السياسة، العلاقات بين البشر لا تحدّدها فحسب قرارات قيادية.
فضلاً عن الأمزجة، للتربية والجينات دورها. من شبّ على شيء شاب عليه. هذا قول يوقع الظلم على كثيرين، لكنّه يصحّ أيضاً على كثيرين. يدخل المرء إلى عالم السياسة وصراعات الأحزاب والإيديولوجيات، من غير أن يتخلّى عن كامل الحمولة من القيم الإجتماعية والأخلاقية التي اكتسبها بالوراثة أو تعلّمها، ومن غير أن تتمكّن طاحونة السياسة من جعل الأتباع كأسنان المشط. فقد تجد في الحزب ذاته البخيل والكريم والشجاع والجبان والعاقل والأرعن والمثقّف والجاهل. وقد تجد فيهم من تعلّم دروس الحرب الأهلية بالمقلوب.
رفعاً للعتب، أذكّرهم بأنّ الثورة تحمل دعوة صريحة الى مغادرة الحرب الأهلية وذكرياتها وخصوماتها وأفكارها وأحقادها.