إنتفاضة روحيتها في عامية 1840
هل نجحت ماكينة السلطة في تحجيم وهضم انتفاضة 17 تشرين الاول؟
بعد مرور سنة على اندلاع هذه الانتفاضة يُخشى ان يكون الجواب عن السؤال بالإيجاب ولو جزئياً، والدليل استمرار أطراف الماكينة إياها في ممارسة اللعبة نفسها وإمعانها في تأزيم الحياة العامة على المستويات كافة، سياسياً واقتصادياً ومالياً وأمنياً… فيما لم يرتفع التحرك الشعبي الى مستوى التحدي، وصولاً الى مرحلة الثورة الشاملة القادرة على فرض شروطها وتنفيذ برنامجها.
والواقع ان أسباب الإحتجاج التي دفعت ألوف اللبنانيين الى الساحات في السابع عشر من تشرين الأول الماضي، تضاعفت حجماً الى حدود الكارثة. قبل ذلك التاريخ كانت معالم الإنهيار بدأت ترتسم في الأفق، ولم تكن الحرائق والتوجه الى رفع تكلفة خدمة الواتساب، سوى شرارة ستكشف الكارثة التي دخلها لبنان بقيادة تحالف القوى الطائفية ونواته الصلبة الممسكة بالدولة. وسرعان ما اكتشف اللبنانيون أن حركتهم الإحتجاجية المطلبية التغييرية ستصطدم بعائقين يتخطيان قدراتهم في تلك اللحظة. العائق الأول، ضخامة المهمة المطلوب إنجازها ومختصرها الدخول في تنفيذ تغييرات اقتصادية ومالية وإجتماعية جدية وهي ليست قادرة، بل ممنوعة من المطالبة بها.
والعائق الثاني، غياب السلطة التي تتوجه اليها الحركات المطلبية عادةً. ففي الحالة اللبنانية انكفأ تحالف السلطة الى مواقعه الطائفية والمذهبية لتحسين قدرته في الإنقضاض على الاحتجاج الشعبي وهرباً من تحمل المسؤولية عن تقديم الأجوبة والعلاجات. وعلى مدى عام شهدنا هجماتٍ على المتظاهرين وتجمعاتهم من ميليشيات احزاب السلطة في الجنوب والبقاع وبيروت، واكبها سيلٌ من الإتهامات لهؤلاء بتنفيذ مخططات اسرائيلية، ولم تتوقف موجة التخوين تلك إلاّ لدى نضوج ظروف التفاوض مع اسرائيل بقيادة مُطلقي الإتهامات وبرعاية لصيقة من شيطانهم الأكبر.
سقطت قوى السلطة نظرياً، فغابت عن دورها المفترض في الاستجابة والتصحيح، ولجأت الى ميليشياتها المسلحة والإعلامية، وإلى اجهزة الأمن الرسمية وشبه الرسمية لقمع الاحتجاجات، وفي المقابل لم تتمكن قوى الانتفاضة، في اتساعها وشمولها غالبية المناطق، من ايجاد إطار موحد لقيادة حركتها، وأسهم القمع وردود أفعال بعض المشاركين في التحركات، ثم انتشار وباء كورونا، في تراجع زخم التحرك الشعبي، رغم تزايد حدة الأزمة وشمولها غالبية اللبنانيين، وانعدام أي أفقٍ لحلها.
شقّت الانتفاضة طريقاً جديداً في الثقافة السياسية للجمهور اللبناني. فهي كرست رداً غير طائفي على سلطة الفساد والميليشيا المُحتَمية بالجلباب الطائفي، وفرضت صوتها في كل بحث وخطاب يتناول الأزمة الراهنة، بما في ذلك التعامل الدولي مع الأوضاع اللبنانية، وحرّكت الجاليات اللبنانية في العالم في مشهدٍ غير مسبوق، وتجلى ذلك خصوصاً في ردّ الفعل التضامني إثر تفجير مرفأ بيروت. وفي مناسبة مئوية قيام الدولة بحدودها الراهنة، كانت الانتفاضة الشكل السياسي الأرقى إحتفالاً بالذكرى لجهة الخروج من الإنقسام الطائفي والمناطقي للتأكيد على نهائية لبنان أولاً، والمزج بين المطالب الإقتصادية والمالية والاجتماعية، وبين اجراء تغييرات تعزز نظام الحكم المدني وسلطة القانون وإعادة بناء الدولة.
هذه العناوين تزعج الزعماء الذين يمتطون طوائفهم ويقيمون دويلاتهم، وتثير على نحو خاص غضب “حزب الله” الذي يبني دولته ويجهد لوضع يده على بقايا الدولة الشرعية، فظهرت تلك الشراسة والرفض في وجه الحركة الشعبية، التي تجد نفسها امام مهمات تتعمق في جذريتها، من المطالبة بحد أدنى من الإصلاحات الى طرح التغيير الشامل. وللمفارقة لا تضع الانتفاضة برنامجها، فالسلطة تسبقها في طرح الأولويات، ونقاط البرنامج التغييري، وما على الناس إلا خوض الصراع من اجل تحقيقها.
وتختلف هبّة اللبنانيين المستمرة منذ عام عن مثيلاتها منذ الاستقلال.
فهي بطبيعتها الشعبية اللاطائفية الشاملة، ورفضها الطاقم الحاكم ونزعها الثقة عنه، تتخطى كل التحركات المماثلة السابقة. وإذا استثنينا تجارب الحروب الأهلية، التي ترفض الانتفاضة بشكل قاطع العودة الى تكرارها، فإن التحركات الشعبية عموماً لم تتخط حدود رفع المطالب الى سلطة قائمة، فتلبي جزءاً منها أو ترفض وتلجأ الى القمع والمناورة.
وفي المقابل كانت صراعات أهل السلطة تُحدثُ تغييراً يستند الى تحريض القواعد الشعبية، وهو ما حصل في حملة الاعتراض على الرئيس بشاره الخوري عام 1952، ثم في الحملة التي أطاحت نظام الرئيس فؤاد شهاب اثر انتخابات 1968النيابية وصعود الحلف الثلاثي. وفي الحالتين كانت قوى السلطة تُعيد تشكيل نفسها استناداً الى دورٍ شكلي مُساعد للاصطفافات الشعبية.
وعلى العكس من تلك التجارب تقترب انتفاضة تشرين في روحيتها من عاميات القرن التاسع عشر، خصوصاً عامية حزيران 1840في انطلياس، عندما اقسم جمهور “النصارى والدروز والمتاولة والإسلام” على العمل معاً من أجل تحقيق أهدافهم. وبعد مرور عام على 17 تشرين، تبدو روح انطلياس ضرورية لمواصلة انتفاضة ستتحول الى ثورة في مسارٍ تستحيل العودة عنه.