اليوم تُتم «انتفاضة تشرين» عامها الاول. قد يحتج البعض على استخدام مصطلح «انتفاضة» بدلا من «ثورة»، الا ان الدقة في توصيف الحالة تحيلنا الى المصطلح الاول نتيجة تشتت القوى المنتفضة واختلاف اجنداتها ما أدى الى تضعضعها وفشلها بالانتقال من حالة الانتفاض الى حالة الثورة.
في مثل هذا اليوم منذ عام على التمام، خرج عشرات الآلاف اعتراضا على الاوضاع المعيشية والاقتصادية كما السياسية واحتجاجا بشكل اساسي على الفساد المستشري والمحاصصة المفضوحة بين القوى السياسية. عناوين مغرية دفعت حتى المترددين بطبعهم الى الشوارع، دفعت المحازبين الذين ملوا وعود أحزابهم الكاذبة، كما دفعت قسما كبيرا من اللبنانيين الذين قاطعوا انتخابات 2018 وبلغت نسبتهم وقتذاك 51%. المشهد في ساحات وسط بيروت كما في مختلف الساحات في المناطق اللبنانية كافة في 17 تشرين الاول 2019 كان مفاجئا ومؤثرا. كانت الطبقة السياسية تعول دائما على تحكمها بالناس باثارة الغرائز المذهبية والطائفية وبمحاولة اقناعهم يوميا ان الآخر يسعى للانقضاض على حقوقك ويهدد وجودك. نفعت هذه السياسة طويلا، حتى انها بالغت بنجاحها. فاستُخدم الآلاف مثلا في طرابلس وقودا في معارك مذهبية استمرت أعواما. الا ان الفقر والعوز اللذين طرقا بقوة ابواب اللبنانيين في العامين الماضيين من دون ان يجدوا ملجأ في احزاب لم تعد تملك المال الذي حجبه عنها رعاتها الاقليميون والدوليون، قلبا كل الموازين، فخرج عشرات الآلاف ليرفعوا شعار «كلن يعني كلن» متجاوزين انتماءاتهم الطائفية والمذهبية والمناطقية بانقلاب واضح على التركيبة المتحكمة بالبلاد والعباد.
ولم يتأخر زعماء الطوائف الذين دخلوا في حالة صدمة استمرت أياما وربما اسابيع معدودة حتى استوعبوا ما حصل. وضعوا خطة محكمة خرقوا بموجبها صفوف «المتنفضين» فشتتوهم، عبثوا بأجنداتهم، حتى افشلوا «الانتفاضة» التي ظلت تناضل للبقاء أشهرا قبل ان تلفظ انفاسها الأخيرة وتعلن الاستسلام.
وحتى بعدما تضاعفت العوامل التي ادت الى خروج الناس الى الشوارع، وبالرغم من هول انفجار مرفأ بيروت الكفيل وحده باطلاق شرارة ثورة لا تهدأ، لم يتمكن القيمون على الانتفاضة من بث الروح فيها من جديد. لا وصول سعر صرف الدولار الواحد الى عتبة الـ 9 آلاف ليرة استفز الناس، لا انقطاع الادوية، ولا حتى انطلاق عملية تحديد سقف للسحوبات بالليرة اللبنانية ما سيؤدي حتما الى عوز وتجويع اللبنانيين، حرك ساكنا فيهم. فالاستسلام هو سيد الموقف والكل يبحث عن مخرج من البلد ويتوق للفرار من «جهنم».
ويمكن الحديث عن 3 أسباب رئيسية أفشلت الانتفاضة. السبب الاول عدم تمكنها من انتاج قيادات تقود الناس، معتقدة انها وبترك الكلمة للمنتفضين في الشارع تحقق هدفها، فكانت النتيجة عكسية، اذ نصب عدد من الاشخاص انفسهم قياديين لـ «الحراك» من دون امتلاكهم حداً ادنى من المؤهلات ما وجه ضربة شبه قاضية للانتفاضة.
أما السبب الثاني، فنجاح الاحزاب في خرق صفوف المنتفضين، ما سيّس الحراك وأسقط شعار «كلن يعني كلن» وهو العنصر الاهم الذي ميّز انطلاقة الانتفاضة وأعطاها الزخم المطلوب.
اما السبب الثالث، فهو تشتت الرؤى والاهداف وأجندات المجموعات التي لم تتمكن من التوحد ولا بحد ادنى توحيد رؤاها، فكان الصراع في ما بينها الذي أطاح الحراك.
ورغم انكباب المجموعات طوال اشهر بمحاولة تجاوز خلافاتها، الا انها لم تنجح في ذلك، حتى ولو كانت في الذكرى السنوية الاولى ستحاول مفاجأة الرأي العام بخطوات غير محسوبة بمسعى لاحياء امجاد 17 تشرين الاول الماضي.
ويسأل اللبنانيون اليوم السؤال الذي اشتهر بطرحه رئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» الا وهو «الى اين؟» تتجه البلاد، فيتردد في مسامعهم مباشرة ما بشرهم به رئيس الجمهورية لجهة اتجاهنا الى «جهنم»، فينظرون من حولهم، فيجدون انهم باتوا هناك من مدة، ليأتي من يزيدهم احباطا بتنبيههم الى ان «الاسوأ» لم يطل برأسه بعد والى أننا لا نزال في «السيىء». والا كيف سنفسر الحالة التي سنكون بصددها بعد رفع الدعم، انقطاع الادوية تماما كما انقطاع السيولة سواء بالدولار او بالعملة المحلية؟ قد يكون توصيف «جهنم» حينذاك غير مناسب لتلك الحالة!