فيلة على ظهر نملة
على هامش احتفال مجموعات الحراك المدني، أو الوطني (ما دامت الانتماءات الوطنية تتحول الى طائفية وبالعكس)، في ذكرى مرور عام على «الانتفاضة الشعبية» التي تستعصي على التعريف أو التصنيف، أو حتى التصريف، تماماً مثلما وضع هذا البلد، الذي تحولت مدينته أو عاصمته بيروت إلى مدينة كوزموبوليتانية (متعددة الأجناس والأطياف والنماذج الثقافية والفكرية والأيديولوجية وأنماط الحياة) إلى عاصمة للدراجات النارية، وعاصمة لتزايد التناسل على الطريقة العربية، ولا بأس إذا كان هؤلاء المواليد الجدد يعتاشون على خدمات «النوطرة» أو «الديلفري» مشياً على الأقدام، أو الموتوبايسكل أو الـ«الموتوبايل» أو عاصمة لامتلاء الشوارع «بالأطفال المستعطين» وراء زهرة أو وردة في الشوارع والساحات، ولو عند منتصف الليل وساحات الفجر.
فقدت بيروت شهية الحياة فيها، وتغير رونقها، ولونها، وجمالية كل ما كان فيها، من رواق، وماء، وشوارع، ونساء جميلات، ومطاعم الأنس و«الجن» والمال، والكتاب، والصحيفة، ما خلا أصوات أناس محتجين في شارع الحمراء أمام مصرف لبنان الذي يحاول عبثاً استعادة الثقة بالليرة اللبنانية، التي كانت قوية في الستينيات، حتى أواخر السبعينيات، والعملات الخضراء (الدولار) والصفراء (اليورو) التي صار الحصول عليها من سابع المستحيلات، فيما المصارف اللبنانية التي شكلت سر «المعجزة اللبنانية» تحولت إلى شركات للسمسرة، أو تهريب الأموال (تحويلها الى الخارج)، والعبث بالثقة الاهلية والاقتصادية والمجتمعية، من خلال «تطيير» أموال المودعين، أو تقنين حصول هؤلاء على «جنى العمر» وكل اشكال الرهان على المستقبل، الذي يغالي في غموضه، واحتراق آفاقه، مع تحولات مذهلة الى نظام اللادولة، واللامجتمع، واللامسؤولية، عقدية او مجتمعية، وسط فلتان قوى الأمر الواقع، أو الميليشيات لحماية أصحاب النفوذ أو «أمراء الطوائف» من الحناجر الغاضبة، لكنها ما تزال قابعة هناك، وراء «الأسلاك الشائكة» أو حواجز الاسمنت، أو المجموعات المدافعة (الحاميات) عن رموز طبقة سياسية، تقاتل، حتى الرمق الأخير، عن امتيازاتها وأموالها ومكاسبها، تحت مسميات خادعة، من «حقوق الطائفة» إلى الميثاق أو الميثاقية، والتباكي على شعارات أضحت بالية بالكامل، كالتحرير والحرية والاستقلال، والرئيس القوي أو الأقوياء، إلى الوصاية والسيادة، وكل «مساخر» الألفاظ البالية، والجوفاء، في زمن انهيارات لم توفر شيئاً، حتى حبة «البنادول» او الإسبرين، أو أدوات التنظيف والجليّ، وحتى المكانس، التي عجزت عن أن ترتفع اليوم، لتضع المعنيين، الفاسدين، «ولتكن لازمة كلن يعني كلن» ما تزال صالحة، إلى مزابل التاريخ، التي تنتظر هؤلاء..
أخطر ما في المشهد، الظاهرة، أن الشابات والشبان، عندما أضاؤوا شمعة استذكار شهداء وضحايا وجرحى انفجار المرفأ الذي وقع في 4 آب، على الرغم من قلتهم، ما زالوا على حماسهم، وعلى تعمق شعاراتهم وإيمانهم بأن هذا النظام الطائفي، الفاسد، والعفن، لا مستقبل له، وأن ائتلاف الطوائف، وممثليهم، سواء أكانوا فاسدين، أو جاهلين، طالحين، أو صالحين، غير قادرين على انتاج تسوية، تعبر عن نفسها في حكومة، او مجلس نيابي، او رئاسة جمهورية، او حتى في سائر المؤسسات.
من الثابت أن قوى التغيير، غير واضحة الهويات الطبقية، أو المجتمعية، وحتى الطائفية والدينية، وأن وعيها لتكتيكات الحراكات والاحتجاجات، افتقد الى نظرة رؤيوية استراتيجية، تعرف حدود اللعبة، والمدى المتاح، لانتزاع مطالب أو مكاسب، تساهم في تغيير قواعد الحكم أو السلطة، أو العناصر القادرة على احداث تحول، ولو على أي مستوى من المستويات..
باستثناء مشاركات حزبية، من اليمين (الكتائب) أو اليسار (الحزب الشيوعي وشركاؤه من بقايا احزاب الحركة الوطنية ذات التوجه الماركسي)، غابت القوى الجذرية، صاحبة المصلحة في ولادة نظام يحدّ من ارتفاع الأسعار او يوفّر فرص العمل، او يحمي اليد العاملة الوطنية، سواء على مستوى البرجوازيات الكبرى الوطنية، او الجماعات المهنية والمنتجة، العمالية والمستخدمة، ذات الرواتب الدنيا أو المتوسطة.. وطغت على الحراكات عناصر، او كوادر، استخدمت وسائل التواصل لتثبيت حضورها على هذا النحو أو ذاك.
راحت قطاعات الانتاج، والخدمات، تنزف نزفاً مبرحاً: اقفال مؤسسات، صرف عمال وموظفين ومستخدمين، اقفال مطاعم، وشركات ومؤسسات سياحية.. وراحت المؤسسات القائمة، كالمصارف، تسيّر الأعمال، من منطلقات حماية الاعتداءات السافرة على حقوق المودعين، وتهريب مليارات الدولارات، الى الخارج.. فلم يشارك موظفو المصارف مرة واحدة، في الحراكات، وقل الأمر نفسه عن سائر الموظفين، في القطاعات الاستشفائية او حتى المتاجر..
على أن الأخطر، في هذا المشهد المأساوي، عدا ارتفاع الأسعار على نحو جنوني، بمعدلات تتراوح بين الثلاثة اضعاف والعشرة، وهستيريا سعر الصرف للعملات الصعبة، لا سيما الدولار الأميركي، الذي أتى على رواتب الطبقة الوسطى، فأجهز عليها، وسط مخاوف، من توقف الرواتب ومعاشات التقاعد، بعد الانتكاسات المتتالية التي أصابت مالية الدولة، ومالية المؤسسات الضامنة، كالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.. هي ظواهر ثلاث:
1 – لم يطرأ أي تحوُّل على عمل النظام المصرفي، ما خلا انخفاض الفوائد، والتعاميم شبه اليومية او الأسبوعية لمصرف لبنان، وتمادي المصارف في ممارسة الاعتداءات اليومية السافرة على حقوق الزبائن والمودعين..
وبقي حاكم مصرف لبنان، رغم الدعاوى القضائية، وشعارات «يسقط حاكم المصرف» هو الأمل المرتجى، في الخروج من الدوامة، بمعزل عن مسار التحقيق الجنائي في حسابات هذا المصرف، وسواه من مؤسسات الدولة..
2 – بقيت القوى الطائفية، الممسكة بالسلطة، وذات المنشأ العنفي الميليشياوي، تتصرف وكأن شيئاً لم يكن، باستثناء استقالة 8 نواب، على الأرجح أن غالبيتهم ندمت على ما فعلت.. فهي التي تستشار، وفق للدستور، وهي التي تسمي رئيس الحكومة، وهي التي تقترح الوزراء.. وإلاَّ فلا حكومة ولا وزراء، ولتحكم حكومة تصريف الاعمال الى أبد الآبدين.
بدت الطبقة السياسية الحاكمة، منعدمة المسؤولية، وهجينة التكوين والمنشأ، والارتباطات، والمصالح غير الوطنية.. تقدمت حساباتها على ما عداها، ولاحظ العاملون على خط المساعدة، من المنسق الخاص للأمم المتحدة، الى الرئاسة الفرنسية ومساعديها، الى السفراء، والموفدين، وبينهم ديفيد شنكر، الدبلوماسي الطامح، الذي كانت له اليد الطولى، مع زميله ديفيد هيل، في دق إسفين الهريان المالي، والانكشاف النقدي امام الدولار بدءاً من حذف «بنك جمّال» عن لائحة المصارف، واقفال فروعه وتشريد زبائنه..
شعرت هذه الطبقة، انها مستعصية على المس بها، او حتى الاقتراب من جغرافيتها، وعهدت الى القوى الأمنية وميليشياتها الخاصة بتوفير الحماية..
3 – القوى العسكرية والأمنية: على الرغم من الليونة التي عاملت بها القوى العسكرية المحتجين، ما خلا اشتباكات كانت تحدث وتعالج على الفور.. إلاَّ أن هذه القوى، لا سيما التي تزال في الخدمة، على الرغم من انسحاقها، تماماً كما حدث لباقي المواطنين والساكنين في لبنان، بقيت على التزامها بحماية النظام العام، ومؤسسات الدولة، واعتبرت أنها غير معنية، باحداث تغيير جذري في بنية النظام السياسي، والدستوري، وحتى الاقتصادي والنقدي والمصرفي.. وهذا ما أضعف قوى الحراك، أو القوى صاحبة المصلحة في التغيير السياسي، أو الاقتصادي، سواء أكان بيئوياً أو محدوداً..
على ظهر «نملة الحراك»، يحاول فيلة الطبقة الفاسدة، تمرير طموحاتهم الشخصية، أو الأنانية، أو حتى الطائفية.. وعلى متن سفينة البلد الغارقة، في المياه الفاسدة والآسنة، يحاول هؤلاء أن ينقلوا حمولاتهم المليئة، بالمآثم، في ظل وضع اقليمي متهالك.. لا يعرف القائمون عليه، أن أزمنة «استعارة لبنان» لحل أزماتهم، اقتربت أوشكت على الإنتهاء!