ساد الاعتقاد أن الشعب اللبناني ظاهرة صوتيّة و«سوشال ميديا»، يفُورُ بين الحين والآخر ثم يخمُد، وفي كل مرّة يتمخّض الجبل ولا يلِد حتى فأراً!!
لكن عشيّة الخميس 17 تشرين الأول 2019، وفي لحظة يقظة، طفح كيل الناس وفي طليعتهم عنصر الشباب الذي لم يعد يثق بأحد ولا يرى أفقاً يضع حداً لمعاناته. وأثبت الشعب أنه يستطيع التحرك عندما تتحرر إرادته، وأن ما يجري ليس فورة أو مؤامرة أو أيعازاً من جهة داخلية أو خارجية، بل هو غضب عارم وتحرّك يتخطى الطوائف والمناطق والانتماءات الضيّقة. والسؤال ليس لماذا انتفض الناس، بل لماذا لم ينتفضوا من قبل!
كان السياسيون على مختلف مواقعهم يتوعّد ويهدد كل منهم بقلب الطاولة بسبب المناكفات والسجالات حول تقاسم الحصص والمنافع في ما بينهم، لكن وحده الحَراك الشعبي فاجأ الجميع وقلب الطاولة، والكراسي، والغرفة برمتها وبمن فيها.
أولى نتائج الحراك كان استيقاظ جزء من الأكثريّة الصامتة، وتحرُّك الشباب بشكل مباشر من أجل الدفاع عن مستقبلهم وآمالهم واحلامهم ومصالحهم وطموحاتهم.
وحين بدء سقوط حاجز الخوف والرهبة من السُلطة، تساقطت عوامل اليأس والإحباط، وسقطت المُحرّمات (Taboos) التي تلازم هالة الزعماء والمرجعيّات وحيثيتهم.
سنة انقضت من الحراك الشعبي، تعمّدت بدماء شهداء المواجهة وشهداء لقمة العيش وشهداء الإهمال والتقصير، وأثمرت إنجازات عديدة بدءاً برمزية تراجع السُلطة عن ضريبة الواتساب (النقطة التي فاضت بسببها كأس الناس)، استقالة حكومة الرئيس الحريري واستقالة حكومة الرئيس دياب، المساهمة في إسقاط تكليف عدة شخصيات سياسية تقليدية لرئاسة الحكومة، استقالة 8 نوّاب من المجلس النيابي، اضطرار القضاء الى فتح ملفات فساد السياسيين وموظفي الإدارات العامة والجمارك والبلديات (ولو لم تثمر النتائج المرجوة)، وضع الوزارات والمؤسسات العامة والقضاء ومصرف لبنان تحت المجهر ودائرة الضوء، توجّه مجلس النوّاب لإقرار قوانين الفساد وغيرها، ارجاء جلسات إقرار قانون العفو العام، إرغام شركات الخلوي على فوترة الخدمات بالليرة بدلاً من الدولار، استقالات في عدة بلديات ومنها بلديتي النبطية وبيروت، انتصار القوى المستقلة في انتخابات نقابة المحامين في بيروت وغيرها من النقابات المهنية والمجالس الطلابية. وهذا غيض من فيض.
ناهيك عن محطات مُشرقة حضارية منها العرض المدني في عيد الاستقلال، إلى السلسلة البشرية من الشمال إلى الجنوب، و«بوسطة الثورة» التي انطلقت من شمال لبنان إلى جنوبه، واللقاءات والندوات الحوارية والتوعوية المتنوعة.
كذلك رُفعت الشرعية عن المنظومة السياسية بأكملها، وجرى كشف السياسيين والشخصيات العامة أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، وتمزيق صورهم، وإلزامهم الحدّ من تنقلاتهم فلم يعودوا يجرؤون على حضور الحفلات أو اللقاءات أو حتى جلسات العزاء، بحيث كادوا يقعون تحت الإقامة الجَبْريّة الشعبيّة، ومنهم من لم يتمكن من الوصول إلى المجلس النيابي إلا بواسطة التسلل.
كما فضح الحراك الأسلوب المُستهجن والوحشي في اعتقال وتعذيب المتظاهرين، وتحوَّل الاعلام فعلياً إلى سُلطة رابعة، وانفجرت الفضائح تباعاً وعلى رأسها فضيحة تهريب العملات الأجنبية والمحروقات والطحين والأدوية، وفضيحة الباركميتر والفيول المغشوش وغيرها، وأصبح «كل مواطن خفير» يُسهم في كشف الفساد والتصدّي للفاسدين.
وتم استرجاع حيوية الحركة الشعبية والطلابية ودورها، وتحوّلت إلى رقم صعب لا يُمكن تجاوزه أو تجاهله، وسقط حاجز الخوف والرهبة، وضُرب أول معول لتهديم معبد الطائفيّة والمذهبيّة والمناطقيّة، واستُعيدت حرية التعبير دون تورية بأوسع وسائلها، وانتُزعت حصرية العمل السياسي من السياسيين والأحزاب، وادينت تركيبة النظام بأكملها «كلن يعني كلن» … ورفرف العلم اللبناني مزهواً وحده فوق رؤوس الجميع. وأثبت الحراك جدواه في تحركه بعد مجزرة 4 آب في مجالات الإغاثة والإسعاف والتنظيف والترميم وإعادة تأهيل المنازل المنكوبة بعد تفجير بيروت، في ظل غياب تام للدولة.
ويكفي الحراك فخراً أنه يُمثّل نبض الناس الغلابة في كل لبنان، وانه ليس نبضاً مذهبياً ولا مناطقياً ولا فئوياً ولا اصطفافياً، وأنه تسبب في تغيير عميق في الوعي والسلوك والتعاطي بين اللبنانيين، وفي انتزاع أحقية الدفاع عن حقوق الناس.
لسنا هنا في معرض مساءلة الحراك أو اصدار استنتاجات او أحكام مُسبقة أو ظالمة بحقه، لكن عوامل عدّة أثّرت في الحدّ من زخم الحراك الشعبي وفراغ «ساحات الثورة» من روّادها، على رأسها قلة الخبرة السياسية، وجائحة كورونا، وإرهاب السُلطة للناس واستخدام العنف المفرط عبر قواها الأمنية ومناصريها وأعمال القمع واعتقال الالاف مما حدّ من حماستهم للنزول إلى الشارع. ومُخيف هذا الكمّ من الرُعاع في مختلف المناطق ومختلف الانتماءات والأهواء الذي حرّكتهم أجهزة السُلطة ومناصريها ضد الحراك!
ونلفت إلى تفكك وتشرذم الحركة وكثرة المُندسين والمتسللين ومنهم عناصر متطرفة وعناصر استخبارية، ودخول مناصري أحزاب عدّة على الخطّ. وقصور التنسيق والتأخر بالانتقال من العمل العفوي إلى التخطيط الاستراتيجي والوصول إلى مجلس تنفيذي موحّد. وتضارب الأهداف والأولويات، وعدم الوصول إلى شبه إجماع لدى اللبنانيين بضرورة تغيير السُلطة السياسية برمتها، وعدم التمكن من بلورة طرح سياسي اجتماعي مالي اقتصادي، وغيرها من العوامل التي يمكن تصنيفها ضمن العثرات والإخفاقات.
إضافة إلى ما حصل فإن إفقار الناس ونهب ودائعهم المصرفية وتفريغ الدولة، دفع المواطنين مضطرين إلى اللجوء إلى «المرجعيات». كما تسلل اليأس إلى نفوس الناس فأصبحوا غير آبهين بما يحصل ويتطلّعون فقط إلى الهجرة.
هذا دون أن ننسى التشويه المتعمّد لصورة ساحات الثورة في عدّة مناطق، ومن أبرزها طرابلس الثائرة على الظلم والحرمان والإهمال المُتعمّد، والتي تتعرض إلى مؤامرة صبغها بالإرهاب والتخلف والانغلاق.
وربما لم يدرك الحراك أن دعوة «الثورة السلمية»، والمسيرات والمهرجانات الغنائية والخطابيّة، والدعوة إلى الانتخابات المُبكرة، لا تُجدي وحدها مع هذا النظام الجهنمي المتأصّل المتجذّر منذ أكثر من نصف قرن!
رغم ذلك كله، هل ستُدرك السُلطة أن عمليات «بوتوكس» تجميل وجهها السياسي لن تُجدي وأن الأوان قد فات، وأن الناس لن تقبل تسوية وصفقة جديدة بين أطرافها.
هل ستُدرك السُلطة أن الشباب المُنتفض لم يعد يثق بها وبوعودها، ولن يرضى إلاّ بالشفافيّة والمُساءلة والمحاسبة والتغيير، وأن سقف الناس أصبح أكثر ارتفاعاً بكثير من محاولات الترقيع والترضية والتسويات السياسية!
هل ستُدرك السُلطة التي تجاهلت طويلاً مطالب الشعب أنها لن تنجح في أن تركب موجته وأن تستثمر الحراك والتظاهرات الشعبيّة المطلبيّة لصالحها!
هل ستُدرك السُلطة أنها مهما شطبت من كلمات الأغنيات، وحوّرت الألحان، فإن الثورة ستولد من رحم الاحزان، وهي حتماً آتية مهما حاولت تأخيرها وتعطيلها!
هل ستُدرك السُلطة انها بمناوراتها قد تلجم التحرك الشعبي إلى حين، وقد تُوقع بين أطرافه، وقد تُساعدها ظروف تفشي وباء كورونا، لكن النار ستبقى تحت الرماد ولا بُدّ من المحتوم.
سيستمر الحراك الشعبي رغم العثرات ومحاولات القمع والتشويه، طالما بقي الحراك لبنانياً بامتياز وعصياً على الاستيعاب والمساومات والمصالح الضيّقة.
سيبقى الحراك حيّاً ويتقدّم طالما بقي ينبض في شوارع وساحات كل لبنان، وسوف ينتصر الحراك حين يتحوّل السياسيون من آلهة يُعبدون إلى أُجراء لصالح الشعب يعملون.
كلمة أخيرة … المعادلة الوحيدة المقبولة والعادلة: انتقال السُلطة بكامل مكوناتها إلى الاعتكاف والتقاعد السياسي الاختياري، وإلاً إلى العزل القسري ومزبلة التاريخ … ونقطة عالسطر!