أيـن لبنان، الذي كان منذ أربعٍ من السنين وطناً جريحاً في طَـوْر المعالجة، فأصبح في غرفة العناية الفائقة..؟
وأيـن الدولة التي كانت تعاني أمراضاً قابلة للشفاء، فأصبح كلُّ عضوٍ فيها مشلولاً ما عـدا بعض الأيدي التي ظلَّتْ قوّيةً على النهْب.
ولأنَّ المستقبل بات يُرعِبنا، فلَنْ نجرؤ على التفكير بنهاية السنتين المتبقِّيتَيْن، مخافَـة أنْ نتشخَّص الإنسان شبحاً يَرمي الترابَ على الأكفان.
ولست أدري ما إذا كان أهل البلاط سيستمرّون بالمراهنة العمياء على خضوع الرعيّة لأن الأمبراطور هو «أبن السماء»، وعلى أهل الرعية أنْ يتحمّلوا لعنةَ كونهم بشَراً.
لعلَّه يُفترض بالمسيحيين في لبنان أن يخضعوا للحاكم وإنْ ظَـلَم، عملاً برسالة القديس بولس الذي يـرى: «أنَّ على المؤمن أن يتحمّل الظلم لأنه بذلك يدافع عن المواقف المسيحية التي ترفض مقاومة الشرّ بالشرّ…».
إلاّ أن الحكم في لبنان ليس مسيحياً، والحاكم يعقد حلفاً مقدّساً مع حزب الله الشيعي، والإمام علي بن أبي طالب يقول: «أَتأمروني أنْ أطلبَ النصرَ بالجـوْر فيمَـنْ وُلِّيـتُ عليه… أنصفِ الله وأنصفِ الناس من نفسك ومن خاصّة أهْلِك…»
هل يصـحُّ أن نتساءل: ونحن نخوض من خلف التاريخ معارك: الموت والحياة والمـاء والهواء والدواء والخوف والرغيف والغذاء والصحّةَ والمأوى، وآخر أنفاس الرمَـقِ الأخير، عمّا إذا كنّا نعلّق بصيصَ أمـلٍ على آخر ذرّة من الضمير عند الذين يتحكَّمون بالمصير المحتَضِر، ولم يُـعدْ لهذا الشعب من أمل إلاّ أنْ يأتي الله ويُنْـقِذه بيديـه…؟
ولم يعُدْ أحدٌ يعرف أيَّ نوع من الحكم هذا، وأيَّ سياسة «جهنمية» تمارسها الطبقة السياسية العليا عندنا، هذه التي لا مثيل لها، حتى في عصور ما قبل التاريخ، ولا تفسير لها، في علم السياسة وعلم الإجتماع، وقوانين الأخلاق والإنسانيات، وليس لنا، لفكّ رموزها إلاَّ أن نلجأ إلى العرّافين والمنجِّمين والضاربين في الرمل، والذين يستحضرون الأرواح الشريرة ويقرأون في الفنجان.
أسطورةُ تأليف الحكومة، كانت ولا تزال رَهْـنَ حالتين: إمّا أن يكون سعد الحريري رئيساً، وإما ألاَّ تكون حكومة، التجاربُ التي سبقَتْ سقطَت بفعل هذا الجنيِّ الساحر الذي إسمه الميثاقية.
والبديل من الحكومة تكليفاً وتأليفاً، يبقى رَهْـن حالتين: إما الفراغ وإمّا الثورة.
الذين يستخفّون بالثورة على أساس ترويضها، لا يدركون أنّ البؤساء من جمهور الناس عندما تظلّ رائحة الموت تطاردهم حتى القبور، لا بـدّ من أن تلـجَّ الثورة في نفوسهم إنفجاراً محموماً، وأسلحةُ الأظافر والمعاول والرفوش، طالما دحْرجتِ التيجان وأطاحت العروش.
شحنة «الشاي» أحدثتْ في التاريخ ثورة، كتلك التي حملتها الباخرة الإنكليزية إلى مرفأ بوسطن سنة 1773، ومن أجل أن يثـور الأميركيون ضد الإنكليز قام عـددٌ من الشبان برمْيِ شحنة الشاي في البحر، فكانت بداية الثورة التي اندلَعتْ باسم حفلة الشاي في بوسطن.
وثورة الشاي هي إحدى الثورات الكبرى التي أطلقها الفيلسوف كونفوشيوس في الصين شعاراً لمذهبه الأدبي والإجتماعي، بحيث أصبح الفلاحون يصنعون الشاي على طريقة المعلّم كونفوشيوس.
هم الفلاحون الذين يقول عنهم نابوليون: «ما همّنـي قـطُّ رأيُ الصالونات والمقاهي، ولا أعرف غيـرَ رأيٍ عام واحد هو جمهور الفلاَّحين».
وقبل ثورة الفلاحين التي قام بها طانيوس شاهين في لبنان، كانت ثورةٌ للفلاحين في القرن الخامس عشر ضد الملوك والأمراء واللوردات ورجال الدين ولا سيّما في إلمانيا، حيث اختاروا حـذاءَ أحدَ الفلاحين شعاراً للثورة، فأصبح «رباطُ الحذاء» شعاراً عاماً لثوراتٍ متعاقبة في أوروبا.
ومن المؤسف حقاً أنْ يكون الحـلّ عندنا معلَّقاً على ثورة رباط الحذاء، لا على إرادة الزعماء.