ما يميّز كلّ ثورات الربيع العربي ومنها 17 تشرين، أنّ بياناتها الأولى كانت خلواً من الإشارة إلى المخاطر الخارجية. هي بدأت في تونس ومصر ضدّ رئاسة التوريث والتمديد، وفي ليبيا وسوريا ضدّ رئاسة التأبيد، وفي اليمن والجزائر والسودان ضدّ حاكم يجعل أمراضه العقلية والنفسية والجسدية أمراض النظام.
لم يرد في نسختها اللبنانية أي تلميح إلى خطر العدوّ الإسرائيلي، مع أنّه ماثل في تحليق طيرانه اليومي ومناوراته العسكرية البرّية، وفي مطامعه في ثروته من المياه الجوفية وتحت مياه البحر. ولا وردت أيّ إشارة في بياناتها إلى مخاطر السلاح الفلسطيني في المخيّمات، مع أنّ معركة الجيش في مخيّم نهر البارد ليست بعيدة، ولا إلى مرحلة الوصاية السورية، مع أنّ ميشال سماحة وسيارته، وعلي المملوك ومتفجّراته ليست جزءاً من ذاكرة منسية، ولا التدخّل الإيراني، مع أنّ لبنان جزء من ساحة المواجهة الإقليمية والدولية ضدّ مشروع الهلال الشيعي.
لم يرد شيء من ذلك كلّه، لا لأنّ هذه العوامل عديمة التأثير على الوضع اللبناني، بل لأنّها ليست مسؤولة عن انفجار الأزمة اللبنانية. الدليل الصريح أو المُضمر هو ما أثبتته وقائع التاريخ القريب، المتعلّق بكل أشكال الوجود والتدخّل الأجنبي. زال السلاح الفلسطيني ولم تحلّ الأزمة، اندحرت إسرائيل ولم تحلّ الأزمة، خرج الجيش السوري ولم تحلّ الأزمة. إذن، سبب الأزمة داخلي وليس التدخّل الخارجي سوى عامل مساعد.
بيد أنّ الحقيقة المرّة التي قالتها البيانات الأولى للثورة هي أنّ الانهيار المالي والنقدي ليس سوى ما ارتكبته القوى المحلية بحقّ الشعب اللبناني، فهي المسؤولة عن تجويعه إذا جاع، وعن تهجيره وتشريد شبابه جيلاً بعد جيل في أربع زوايا المعمورة، وعن تدمير الوطن حجراً وبشراً وآخرها انفجار المرفأ. لصوص المال العام لبنانيون، هم من بدّد الثروة الوطنية المالية والبشرية وتحاصصوها، وهم من زرعوا قيم الفساد والإفساد في مؤسّسات الدولة وفي المجتمع والثقافة والعادات والتقاليد.
من المؤسف أنّ بعض الثورة وبعض أصدقائها أيضاً، ممّن ظنّوا أنّها تراجعت وانطفأ وهجها، أخذوا يشيرون في بياناتهم وتحليلاتهم إلى دور تخريبي للنفوذ الإيراني، من خلال ذراعه العسكري والسياسي المحلي “حزب الله”، وراحوا يرسمون استناداً إلى ذلك خريطة طريق للثورة، ويرون أنّ حل الأزمة يبدأ من مواجهة هذا النفوذ.
نعم، إيران مسؤولة بمقدار مسؤولية إسرائيل وسوريا والسلاح الفلسطيني عن أزمة مستدامة عمرها من عمر النظام اللبناني، وإن تمظهرت بأشكال شتّى بحسب الظروف الإقليمية والدولية. الثورة استندت إلى هذه الحقيقة، واستخرجت منها معادلة أخرى. ربّما تكون قد تعلّمت من تجربة المقاومة أنّ تحرير الأرض من الإحتلال لا يكتمل إلا بالتحرّر من الإستبداد، أو تعلّمت من انتفاضة 14 آذار، أنّ خروج الجيش السوري لم يكن كافياً لتعطيل دور الوصاية السورية.
نعم، انطوت صفحة التحرّر الوطني، وباتت أولويات الثورة اليوم مواجهة أنظمة الإستبداد.