عجزت ثورة 17 تشرين في أوجها عن تشكيل سيل جارف “يكنس” السلطة الحاكمة. ثم فشلت في فرض انتخابات مبكرة تُنتج تغييراً على مستوى الرئاسات والمؤسسات الدستورية سلمياً، ولذلك فإنها تكتفي تلقائياً بتحقيق إنجازات متقطعة قد تتراكم في مسار يؤسس للبنان جديد، مع الخشية من دخول روح الثورة في سُبات، والثائرين في وَهْم المنابر والبيانات.
ليس امام الثورة اليوم الا “الصبر الاستراتيجي”، لكنه ليس الانهزامي المحكوم بالمعادلات الاقليمية والدولية والولاء للخارج، بل الديناميكي المفتوح على أمل الشباب الحر السلمي الذي أطلق هذه الانتفاضة والذي يتوجب عليه قراءة الأحداث لاقتناص “مهمات ثورية” تُحدث الفرق الضروري، ما يجنّب المجموعات الثورية أن تصير رقماً إضافياً في المشهد السياسي الرتيب.
يُسجَّل للثورة ربحها المهم في بعض الجامعات وفي نقابتي المحامين والتقدم المحترم في رابطة اساتذة الجامعة اللبنانية، لكنها أهون الانتصارات، إذ ان الخروج الى المعترك السياسي الأهلي له قواعد أكثر تعقيداً تستدعي تحالفات وتقاطعات، وهو يستوجب التخلي عن شعار “كلن يعني كلن” التجييشي العاطفي، الذي صح مع بداية الثورة ثم تحول طفولياً لعدم تفريقه بين التناقض الرئيس مع قوى “الثورة المضادة” التي قمعت الثائرين بالعصي وفقء العيون، وبين التناقض الثانوي مع من ساندهم او وقف على الحياد.
ازعاجُ السياسيين في المطاعم ورشقُ المصرف المركزي بالحجارة ورميُ النفايات امام بيوت عتاة المصرفيين، كلها هوامشُ تلوّن الثورة في غياب تحرك جدي. لكن حان الوقت للخروج من سكرة الانتصارات الجزئية والانتباه الى ان الانهيار المتسارع في المؤسسات وملامح تفكك الدولة تحت وطأة العصبيات الطائفية والأطماع السياسية، والتي تجلت في وقاحة ضرب التحقيق في جريمة 4 آب من خلال رفض الانصياع لاستدعاءات القاضي صوان، تفرض على الثورة أولوية التصدي للخطر المحدق بما تبقى من مؤسسات وربما بوحدة البلاد.
بالمباشر، وأسود على أبيض، فإن امام اللبنانيين اليوم، والمجموعات الرافعة لواء الثورية بالتحديد، مهمة حقيقية تتمثل في دعم المحقق العدلي ليستدعي من يشاء وفي منع المنظومة الفاسدة من إفشال التحقيق ومِن فتح كل ملفات الفساد. فالثورة طالبت منذ يومها الأول بتفعيل القضاء للمحاسبة والاقتصاص من كل المرتكبين الذين أضاعوا الودائع وتقاسموا الغنائم، ولا يمكنها التفرج على تنازع طائفي سياسي يدمر القضاء ويغتال حق أهالي مئتي قتيل وستة آلاف جريح في محاسبة المهملين والمتورطين.
لا يكفي ان تطالب حفنة من الناس امام قصر العدل باستكمال الاستدعاءات وعدم توقفها امام خط احمر سياسي أو طائفي يحمي رئيساً او وزيراً او نائباً ويرسم الحصانات، هذا الاعتراض يجب تحويله الى موجة شعبية لأنه جوهري ومفصلي في مسيرة استعادة الدولة من الطوائف والعصبيات.
تريدون مهمة ثورية حقيقية. إليكم هذه المهمة النبيلة، وسيتوقف على توليها ونجاحكم فيها التأسيس للتغيير، وعلى تلكؤكم في حملها هدر للتضحيات التي قدمها الثوار في سبيل قيام دولة المواطنية والقانون، ولن تقبلوا ان يحولّكم التقاعس عنها جزءاً من “كلن يعني كلن”.