IMLebanon

هكذا تغلّب اللبنانيون على حكامهم بالسخرية وخفة الدم

 

يتفنّنون في تحويل القضايا الساخنة إلى دعابة

هكذا تغلّب اللبنانيون على حكامهم بالسخرية وخفة الدم

 

ظمأُ اللبنانيين للعيش بكرامةٍ تحت كنف دولة مدنية حضارية خالية من الفساد والمحسوبيات وتقاسُم الحُصص، دَفعهم إلى الإبداع والخلق و”التنكيت” والسخرية والتعبير عن مطالبهم ونوعية الحياة التي يُريدونها، خلال العرض المدني التاريخي الرائع (للمرة الأولى في تاريخ لبنان )، لمُناسبة عيد الاستقلال السادِس والسبعين. فوج الطناجر، مُحامون، أطباء، صيادلة، إعلاميون، مُهندسون، فنانون، مُعلمون، مُغتربون، عسكريون متقاعدون، صِناعيون، زِراعيون، مُحاسبون، تِكنولوجيون، أطفال، طُلاب، أُمهات، آباء، درّاجون، حقوق الانسان، مُبدعون وغيرهم من فئات المجتمع اللبناني، أظهروا للملأ، خلال مرورهم كأفواج في العرض، كم هو راقٍ هذا الشعب، وكم هو مبدعٌ وخلاّق، وكم هو صاحب دعابة ونُكتة حتى في عزّ معاناته، والظريف أيضاً أن المغتربين والمهاجرين اللبنانيين باتوا يُجارون الثوار في “النكات والنهفات”.

“فوج الهيلا هيلا هو”، “يا حلاب عطيني مشكل حتى الحكومة تتشكل”، “14 و 8 عملوا البلد دكانة”، “ما في حرب، في مصاري سرقتوها، نهبتوها، أخذتوها ردوها”، والكَثير من الشعارات التي رفعها الثُوار في ساحات الثورة في ذكرى عيد الاستقلال وما بعده، لا تخلو من السخرية. ثوارٌ يتمتعون بخفة الظل والمرح والكوميديا حتّى في أحلك الظروف والأزمات وأكثرها تعقيداً، فهم يجيدون نشر الشائعات بسرعة البرق، حيث أثبتوا أن خفّة الدم صفة يشتهرُ بها عامة اللبنانيين الذين لا يتخلون عن روح الدعابة، وهكذا أصبحت الثورة، أكبرُ حركة احتجاج شعبي تشهدها بلاد الارز ضد الطبقة السياسية الحاكمة، موضع نكات وتهكّم على هذه الطبقة وأدائِها.

 

 

النكات تحولت شعاراً للثورة

 

وفي هذا السياق يُعلق الأستاذ في اللسانيات الحاسوبية والإعلام الرقمي في الجامعة اللبنانية غسان مراد: “تَأتي السخرية كنوعٍ من أنواع الحياء (الخجل) من قول الشيء بشكلٍ مباشر أو للتقليل من حدة القول، أو بهدف الإهانة غير المباشرة من خلال السخرية بالآخر، هذا ينسحب على كل الثورات العربية والغربية”، لافتاً إلى أنّها ظاهرة من الظواهر البلاغية في الخطاب، واعتُمدت حتى عند الفلاسفة اليونان في البلاغة اليونانية، ويكثُر هذا النوع من السُخرية في الحجاج ( argumentation ) السياسي.

 

ويُضيف بأن المصريين إستخدموا السُخرية للضحك (التنكيت على انفسهم)، أمّا الثوار اللبنانيون فاستعملوا النكات كشعارٍ في ثورتهم، مُتضمنةً رسائلَ سياسية مُباشرة، أكثر من ميلها الى الضحك مما استعملها المصريون، مشيراً إلى أنّ المصريين امتازوا بمستوى سخرية أكبر في ثورتهم، وهذا مرده إلى طبيعة النظام لديهم، إذ ليسَ لديهم حيز كافٍ من الحرية في التعبير المباشر( نوع من الخوف)، وهذا غير موجود عندنا، لأنّ حيز حرية التعبير أكبر في لبنان.

 

وفي نظرة تحليلية لواقع الثورة يُفيد بأنه طالما أنها متتالية ومستمرة في لبنان، كما كانت الحال في مصر على عكس ما حصل في الجزائر، فإنّ الثوار مضطرون لخلق أفكار (للتسلية والترفيه) تخفف من وطأة العمل الجدي في الثورة.

 

المال في البيوت والتبولة في البنك

 

ومن بين أبرز المشاهد التي استوقفت مراد، صورة لامرأةٍ لبنانية إنتشرت على مواقع التواصل الإجتماعي في أثناء إعدادها البقدونس، خلال انتظار دورها في احد فروع المصارف، وفي اليوم التالي عادت إلى المصرف مع التبولة وقدّمتها إلى الموظفين والحضور. والطريف أحد التعليقات عليها “إنقلبت الآية: صرنا نخبي المصاري ببيوتنا… ونعمل تبولة بالبنك”.

 

ويَشرح مراد: “بدل أن تضيع الوقت جلست “تنقّي” بقدونس، هنا الإعلام صنع منها حدثاً، ولكن بحدّ ذاتها ليست حدثاً أو رسالة، وهذا نوع من أنواع السخرية، فطرافة المشهد أضحكت الحضور وحتى مدير الفرع، إضافةً الى كل من وصلته الصورة، على الرغم من أنّها تتضمن ذماً لأداء البنوك”. ومن الشعارات التي استوقفته أيضاً “كنا نقسط للبنك صار هو يقسط لنا”، وآخر يسخر من شعار أحد البنوك.

 

 

وبرأيه فإن السخرية عند الثوار باتت تأخذ أشكالاً مختلفة، منها السخرية السياسية والاقتصادية والمالية والثقافية والاجتماعية والتربوية والمعيشية، حيث يَظهر التلاعُب بالكلام لبناء صورة ذهنية للشعار، ولكن بشكل مضمر ودعابي؛ كون الناس تتقبل هذا النوع من اللعب على الكلام أكثر مما تتقبل الخطاب والشعار المباشر، وبهذه الطريقة يصبح مضمون النكات متداولاً ومألوفاً على الاذن، فهذه الشعارات وإن بدت متباعدة في المعنى والشكل، لكنّها تدور في الفلك نفسه، وهي السُخرية المتأتية من المعاناة المتعددة الأوجه عند اللبنانيين.

 

طابع كاريكاتوي مضحك

 

بدورهِ يرى الأكاديمي والدكتور في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية نزيه خياط أنّ الثورة اللبنانية تمّيزت بأنّها عبرت عن مخزونٍ كبيرٍ من الغضب العميق لدى اللبنانيين، وكانت غالبية الانتقادات تأخذ طابعاً كاريكاتورياً مضحكاً، طاول الطبقة السياسية من دون استثناء، فحتى الاباحية التي ظهرت أحياناً كانت تُؤخذ على سبيل النُكتة.

 

ويُبين أن الإحباط النفسي عند المجتمعات غالباً ما يتم التعبير عنه من خلال النُكتة وخفة الدم التي تعتبر المتنفس الأهم، مُستدركاً “ولكن ما قَدّمته الثورة اللبنانية وميّزتها عن غيرها من الثورات، أنّها أضافت لغة الجسد المشتركة بين الشباب والشابات كإقامة حلقات الدبكة والرقص والغناء وحتى حفلات الزفاف”، مُلاحظاً نوعاً من التفاعل والاندماج في النكات والنهفات بين الفئات العمرية كافّة، بمعزل عن إنتماءاتهم الطائفية والمناطقية.

 

وفي مُقارنة سريعة يَكشف خياط أنّ معظم الثورات العربية التي شهدناها عبّرت عن كآبة كالثورة المصرية التي رُغم تميُز شبابها بـ”خفة الدم” إلا أنّها تضمنت نوعاً من الوجوم والإكتئاب والغضب الشديد، والأمر عينه في تونس، وفي سوريا كانت دموية، وهذا كُلّه يدل على قمع الحريات، فيما شكّل “التنكيت” والسخرية أبرز ميزات الثورة اللبنانية.

 

 

ويُشدد خياط على المشاهد التصويرية الجامعة لا سيما التي رأيناها في احتفال الثوار بعيد الإستقلال، والتي عَكست درجة عاليةَ من الرقي والوعي والجدية في مقاربة المعاناة الحقيقية والخطيرة التي تتهددهم وتُواجه مستقبلهم، مشاهد لم تَشهدها الثورات العربية. ويَعزو روح الدعابة عند اللبناني إلى الحرية التي يتميز بها ورَفضه القمع بكافة أشكاله. فسيطرة العنصر النسائي على العنصر الذكوري مثلاً خلق نوعاً من الحيوية الدعائية والتعبيرية، من خلال إبتكارها للرسوم والاشكال وحمل الاعلام والنظّارات على شكل العلم لبناني، وأكثر ما تجلى ذلك كان خلال العرض المدني التاريخي بمناسبة عيد الإستقلال منذ أيام قليلة.

 

 

وفي الختام لطالما شكّلت آلام الشعوب وتقلّبات الحكم والسياسة مادّة خصبة لفن النُكتة السياسية والإجتماعية الذي لا يموت، فالنُكتة وليدة أشكال سوسيولوجية محددة تاريخياً واجتماعياً، بدليل كيف أبدعت المجموعات الاجتماعية وأنتجت النكات الخاصة بها، من مواقع إنتماءاتها ومن مواقع مواقفها، وقامت بتسويقها وترويجها. ولذلك، لا غرابة أنه كان للمعلمين نكاتهم الخاصة وللطلبة نكاتهم، وكذلك للأطباء وللموظفين في القطاعات المختلفة، “لتُعبّر عن خُصوصية عملهم وانشغالاتهم”. ومن هنا التنكيت يزداد حين تشتد الأزمات وفي حالات القلق والتوتر، سواء أكانت أزمات سياسية أم إقتصادية أم إجتماعية.