Site icon IMLebanon

الثورة: كشّ رئيس

 

“كشّ ملك”، هي النقلة الأخيرة التي تنهي جولة الشطرنج حين يصير الحصار مُحكماً حول الملك. قد تنطبق العبارة اليوم على رئيس البيت الأبيض، لأنه هو الآخر محاصر بأخطائه الفادحة وبالمهلة القصيرة من أرذل عمر الولاية. لكنّها تنطبق أكثر على رئيس قصر بعبدا. ومن الصدف أنّ كلاً منهما حاصر نفسه بأخطاء شائكة مصنوعة من المادة ذاتها، التفريط بالدستور وبالديموقراطية وتعريض السلم الأهلي للخطر. الشطرنج لعبة. لكنّها، في حالتنا كما في حالة أميركا، لعب بالنار. يخسر الجولة في اللعبة من يرتكب أخطاء دفاعية أو من يتهوّر في هجومه. والحاذق هو من يعطي الأولوية للتعادل، أي للتسويات بلغة السياسة، بانتظار خطأ دفاعي من الخصم.

 

ما إن تقدّمت بيادق الثورة حتى بدأت تحصينات الرئيس الدفاعية بالتفكّك. إستقالت الحكومة وعزف نصف مكوّناتها،”أمل” و”الاشتراكي” و”المستقبل”، عن المشاركة في حكومة جديدة. ظلّ يدافع عن نفسه بقلعتين من الشيعية السياسية وحصان أعرج وحصان لدود. في الدولة الديمقراطية الحصن الأول للرئيس هو الدستور. يقسم الرئيس على حمايته وبه يحتمي. فؤاد شهاب، باني دولة الدستور، أي دولة القانون والمؤسسات، إختار مستشاريه ممّن تحصّنوا بالدستور في مواجهة مراكز القوى في الدولة، حتى صار فؤاد بطرس ومذكّراته مدرسة ينبغي أن يتعلّم فيها كلّ مرشح للرئاسة دروسه الأولى.

 

الرئيس عون بدأ تفريطه بالدستور مباشرة بعد انتقاله من جلسة القسم في المجلس النيابي إلى جلسة التشاور مع الرئيس المكلّف سعد الحريري في حكومة العهد الأولى، يوم قرّرا، من خارج أحكامه، إشراك جبران باسيل في اجتماعهما. لم ينفع الحريري استدراك الخطأ بعد ذلك. فقد سبق السيف العذل وصارت تعليمات الصهر الليلية المدعومة بإرشادات المرشد أقوى عند الرئيس من أحكام الدستور.

 

بعد الثورة تكرّرت الظاهرة. ومع كلّ تفريط بالدستور كان”الملك” يحكم الحصار على نفسه. لا تقوم دولة ديموقراطية خارج الفصل بين السلطات. المنظومة الحاكمة كلّها ضالعة بإزالة الحدود بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. تداخلت الصلاحيات ولم يعد لأي سلطة منها مداها الحيوي. هذا ما سبق أن قرّره نظام الوصاية وتابعت المنظومة الحاكمة الابتكار فيه، من بدعة الترويكا، إلى ترويض القضاء بعملية اغتيال على قوس المحكمة في مدينة صيدا، إلى استقبال رئيس الجمهورية في الجنوب اللبناني والترحيب به كأنّه زائر أجنبي في غير بلاده.

 

رحل نظام الوصاية لكن دام ظلّه، وبات في الدولة بدل الرئيس “رؤساء ثلاثة”، وبات على كلّ زائر أجنبي أن يذعن لهذا المخلوق العجيب الذي يحتاج، قبل ترسيم حدود الوطن البرّية والبحرية، إلى ترسيم حدود الصلاحيات بين مسؤوليه، مع أنّها مرسومة ومحدّدة في الدستور.

 

في الردّ على الثورة، ذهب الرئيس إلى أبعد من التفريط بالقيم الدستورية، إلى انتهاكها بالامتناع عن توقيع مرسوم التشكيلات القضائية ثمّ عن مرسوم تشكيل الحكومة. آخر الانتهاكات كلام جرى تسريبه لا يليق بساكنيه، ومصطلحات ليست من مصطلحات الدستور تشي بانهيار القيم، وهي آخر الحصون وآخر خطوط الدفاع عن ملك الرقعة. إنّها اللحظة التي تسبق هزيمته في النقلة الأخيرة “كشّ رئيس”.