IMLebanon

تنظيم التجمّعات ومكافحة الشغب: تجنّب استخدام العنف يستدعي كفاءات مفقودة

 

تتكاثر، منذ العام الماضي، مشاهد استخدام القوى العسكريّة والأمنيّة للضرب والعنف في تنفيذ مهامها، وآخرها في المطار، أول من أمس، بين عسكريين مكلفين الحفاظ على الأمن وسائقي تاكسي المطار الذين كان يحتجّون ضد قرارات رسمية عدّوها استنسابية بحق العاملين في قطاع النقل أثناء الإغلاق العام.

 

حال من الفوضى والعراك والصراخ أمام المدخل الرئيسي للمطار، على مرأى المسافرين والزوار وهواتفهم التي نقلت مشاهد «الخبيط» والركل والضرب بأعقاب البنادق، وانقسم المعلّقون على مواقع التواصل الاجتماعي بين من دافعَ عن القوى العسكرية وهاجم المحتجّين «الزعران»، وبين من انتقد ظلم الدولة بحق المحتجّين وهاجم العسكريين بسبب قمع التحرك الاحتجاجي بالقوة والعنف.

لكن الموضوع الأساس أبعد من «مشكل» بين الجيش و«زعران»، أو «عراك» بين عسكريّ ومدنيّ، أو حتى «صدام» بين الدولة و«ميليشيات» كما وصفها بعضهم. بل يتعلّق بعجز أجهزة الدولة عن المعالجة بطريقة محترفة لا تُحدث بلبلة ولا تسيء لسمعة الجيش وتحوّله، بنظر بعض الناس، إلى قوة قامعة بحق كل مواطن يتجرأ على الاحتجاج.

صحيح أن حق الاحتجاج والتظاهر مكفول في الدستور. لكن هذا الحق ليس مطلقاً. وقد فرضت الحكومة إجراءات منع التجمعات للحدّ من انتشار فيروس كورونا في وقت تمر البلاد في وضع خطير صحياً يهدد حياة الآلاف. لكن اقتصار مفهوم التشدد لدى بعض الضباط على استخدام العنف يدل إلى تراجع في كفاءة هؤلاء الضباط. وهم، أساساً، في سلك عسكري يكلّف عادة مهامّ حربية ويُعوّل عليه لمواجهة العدو الخارجي والإرهاب، وليسوا مدربين، بالشكل الكافي مهنياً، لتولّي مسؤوليات تستدعي منهم التعامل مع مدنيين غير مسلحين. وقد تكررت مشاكل مماثلة خلال العام المنصرم عندما اضطر الجيش للنزول إلى الشوارع بسبب عجز قوى الأمن الداخلي عن تنظيم التجمعات بحجة نقص عديدها وعتادها.

إضافة إلى قيود «الإغلاق العام» الذي يمنع التجمعات، لم يبلّغ محافظ جبل لبنان (حيث موقع المطار) بعلم وخبر عن التحرّك الاحتجاجي كما يفرض القانون. فقررت قيادة أمن المطار (العسكرية) التي تخضع لإمرة وزير الداخلية (ضابط حربي) التعامل مع الموضوع بالطريقة التي تراها مناسبة. وبعد اتصالات للتأكد من أن المشاركين في الاحتجاج أمام مدخل المطار لا يحظون بدعم أي قوة مسلحة وأن الجميع رفع الغطاء عنهم، اتُّخذ قرار فضّ التحرك.

وهذا القرار في حد ذاته قانوني ومسؤول. غير أن المشكلة تكمن في «طريقة» تنفيذه.

في المشهد عشرات العسكريين باللباس والعتاد الحربي يتعاركون من مدنيين غير مسلحين في مكان مكتظّ بالسيارات والمسافرين والعمال، وفي ظل ارتفاع الصراخ والشتائم في القاعة المخصصة للوافدين. وقد وصف بعض من كانوا موجودين ما حصل بـ«المَشكَل الكبير»، بينما وصفه آخرون بـ«قمع الجيش لمجموعة زعران». وأيّاً يكن وصف ما حصل، فلا شك في أن المشهد مسيء للدولة اللبنانية ولوزارة الداخلية وجهاز أمن المطار التابع لها من نواحٍ عدة:

– مشهد أي صدام بين عسكريين باللباس والعتاد الحربي ومدنيين يصرخون بأنهم «يموتون من الجوع بسبب منعهم من العمل» قد يدفع معظم الناس إلى التضامن مع المدنيين وإدانة العسكر؛

– يمرّ لبنان بمرحلة عصيبة حيث يُتّهم وزراء ومدراء وضباط في الدولة اللبنانية، على نطاق واسع محلياً ودولياً، بالضلوع في جريمة خطيرة وقعت قبل أشهر في أحد مرافق الدولة الأساسية وأدت إلى قتل مئتي شخص وجرح الآلاف وتدمير جزء كبير من العاصمة. وبالتالي، فإن مشهد عراك بين الجيش ومدنيين على مدخل المطار قد يزيد من تشويه مكانة الدولة في لبنان؛

– وجود أسلحة في حوزة العسكريين خلال العراك زاد من الخطر الأمني على العسكريين أنفسهم، وعلى المدنيين والمسافرين. إذ يُخشى أن يقع السلاح على الأرض أو يمسَك به بطريقة ما تؤدّي إلى إطلاق الرصاص لاإرادياً. لحسن الحظ لم يحصل ذلك وإلا لكان عناصر جهاز أمن المطار قد تحوّلوا إلى التهديد الأكبر لأمن المطار؛

– لم يُجهّز العسكريون المكلّفون فضّ التجمّع الاحتجاجي بالعتاد المطلوب لمواجهة أي شغب محتمل. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن للباس الواقي والخوذة وظيفة أساسية تُضاف إلى وظائف حماية العسكر، وهي وظيفة ردعية في حال ارتفاع نسبة الغضب لدى المتظاهرين. إذ أن مجرد وجود شرطة مجهزة بعتادها الكامل (كان ممكناً مثلاً إحضار آلية لرش المياه إلى المكان) هو جزء من مهارات الاحتراف في عملية موازنة «التشدد والتراخي» (Escalation / De-escalation).

أمن المطارات المدنية عموماً، والأمن في قاعات الوصول والمغادرة والمداخل الأساسية خصوصاً، ليست عادة من مسؤوليات الجيش الذي يمكن الاستعانة به في حماية المطارات فقط لدى وجود خطر إرهابي وبشكل استثنائي ومؤقت. أما في لبنان، فقد قررت السلطة تكليف الجيش بكلّ ما يتعلق بالأمن، بما في ذلك التعامل مع المدنيين. وخُصصت قيادة أمن المطار بشكل دائم لضابط في الجيش وأنشئ جهاز عسكري يُعرف باسم جهاز أمن المطار.

ويسعى ضباط جهاز أمن المطار بالتعاون مع ضباط الأمن العام والأمن الداخلي والجمارك إلى تسيير المرفق العام بشكل آمن ومناسب، رغم بعض الخلافات السابقة بينهم. لكن هذا الجهاز يعاني من نقص في بعض الحاجات الأساسية التي تتيح له القيام بمهامه بنجاح ودقة، ومن دون إحداث بلبلة وفوضى. في الحد الأدنى، يمكن تحديد ثلاث كفاءات مطلوبة للحؤول دون تكرار ما حصل في المطار أول من أمس وهي:

– بما أن أحد أنجح سبل الحفاظ على الأمن يكمن في الاستعلام الدقيق والمعرفة المسبقة، لا بد أن تكون لجهاز أمن المطار عيون وآذان. ويشمل ذلك مدخل المطار والعاملين في قطاع نقل المسافرين. وكان يُفترض أن يعلم الضابط المسؤول باحتمال وقوع عراك في مدخل المطار قبل وقوعه واتّخاذ الإجراءات اللازمة لتجنّبه ومعالجة الأمر بالطريقة المناسبة، أي الطريقة التي لا تُحدث بلبلة وفوضى ويتخلّلها عنف مفرط.

– يُفترض كذلك أن يتمتّع ضباط جهاز أمن المطار بمهارات التفاوض وإيجاد الحلول وحلّ النزاعات. ويُفترض بوزارة الداخلية تسهيل مهام الضباط في حلّ النزاع من خلال تكثيف اتصالاتها وربما اقتراح الطلب من الحكومة تخصيص دعم إضافي لذوي الدخل المحدود الذين تضاعفت معاناتهم بسبب الإقفال العام. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الوزير والضابط والعسكري يتقاضى راتبه الشهري ويحصل على ضمان صحي وتعليم لأولاده (ولو غير كافٍ)، فيما معظم العاملين في قطاع نقل المسافرين مياومون لا يتقاضون راتباً شهرياً ولا يحصلون على أي ضمان لتعليم واستشفاء أولادهم.

– إذا استُنفدت كل مساعي التفاوض والمعالجة السلمية ووجد الضابط المسؤول نفسه مضطراً لاستخدام القوة فلا بدّ من استخدامها باحتراف وحذر وبإشراف القضاء المختص، وذلك لحماية نفسه والعسكريين وأمن المطار وسمعة الدولة والجيش بشكل عام.

ختاماً لا شك أن تجنّب البلبلة والفوضى لدى التعامل مع مواطنين غاضبين بسبب معاناتهم أمر ممكن إذا توفرت الإرادة الطيبة والنية الصافية للاتّكال على العقل واعتماد الاحتراف بدل العضلات والسلاح والعنف المفرط. وربما يقتنع، يوماً، بعض الضباط الذين يشغلون مواقع المسؤولية أن الأمن في لبنان ليس وظيفة حربية بل أمن اجتماعيّ واقتصاديّ قبل كل شيء. أما العنف فقد يجرّ مزيداً من العنف.\