اندلعت الحرب الأهلية وبدأت الميليشيات تحتل الحيز الخاص بالدولة، في الأمن والجباية والإدارة المحلية.
ظل شرطي البلدية في قريتنا يمازحنا بقوله، راجعة، وهو يقصد الدولة، إلى أن دخلت إسرائيل، وحل “الحرس الوطني” التابع لميليشيات سعد حداد وأنطوان لحد بديلاً من “الأمن الشعبي” الذي أنشأته الحركة الوطنية اللبنانية في مناطق نفوذها، أسوة بكل أمن محلي في مناطق نفوذ أخرى.
القضاء واحدة من مؤسسات الدولة التي لم تتمكن الميليشيات من السطو عليها. لكنه لا يستطيع أن يعمل من دون ذراع أمني، الضابطة العدلية. لذلك كان يحيل إلى الحفظ القضايا المتعلقة بمسلحي الميليشيات إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ميليشيات الجنوب ما قبل الاحتلال توزعت بعد الاحتلال ما بين حرس وطني ومقاومة. الفارق كبير طبعاً بين عميل ومقاوم. احتار شرطينا البلدي، أيهما الدولة وأيهما ميليشيا، إلى أن قضى الله الأمر.
ذهب الاحتلال وذهب معه الحرس. لكن سلاح المقاومة أطلق سجالاً سياسياً ونظرياً حول المصطلحات، ودخل حابل الشرعية بنابل المشروعية. أحجم الشرطي عن التأويل والاجتهاد بعد أن بلغ سن التقاعد.
دخلت الميليشيات في الدولة فاحتلتها بقوة نظام الوصاية، حتى صارت شيئاً فشيئاً هي الدولة.
اختلت المعايير وانقلبت، مثل انقلاب معايير “الليث ملك القفار”في قصيدة أحمد شوقي، بعد أن آل ملكه إلى دمار، حين رأى “القرد عند اليمين والكلب عند اليسار والقط بين يديه يلهو بعظمة فار”، ولن نكمل إنشادها منعاً لأي تأويل أو تلميح أو سوء ظن واصطياد في ماء الأمن العكر.
في منتصف التسعينات لم تكن الدولة من أولويات القوى السياسية ولا مدرجة ضمن قائمة الهموم المتداولة. كانت العلاقات المميزة مع الشقيقة وتحرير الأرض من العدو.
حتى رفيق الحريري الذي كان وحده بلا ميليشيا، أعطى الأولوية في البداية للبنية التحتية لا للدولة. كتبت منتقداً مشروعه لإعادة بناء الدولة، وحين التقيته قال بمرارة، ما تطلبه مني ممنوع علينا فعله. وعندما قرر الدفاع عن الدستور قتلوه.
استدرك اليسار أهمية الدولة في المؤتمر السادس للحزب الشيوعي وفي مصالحة الجبل مع وليد جنبلاط، وكذلك فعلت القوات اللبنانية وحزب الكتائب.
لكن النزعة الميليشيوية بقيت تنبض في خلايا المتحدرين من التربية الميليشيوية، فكيف بالميليشيات الحية التي تمسك بمفاصل السلطة وتخلط بين الدولة والسلطة، بين السلطة والسلبطة، أي التشبيح؟
عندما جمعت ما كتبته عن الدولة في كتاب، إغتيال الدولة، عام 2006 قيل لي، أين هي الدولة؟
ينبغي أن تكون موجودة لكي تتعرض للاغتيال. كانوا يخلطون بين المصطلحات. آخر”الخلطات” قرار “سيادي” لوزير الصحة. هو لا يعرف أن السيادة هي سيادة القانون.
جاءت ثورة 17 تشرين لتقول إن الوطن باق ما بقيت الدولة وأنها موجودة ومولودة مع الدستور، وأن محاولات اغتيالها بدأت في 13 نيسان 1975، وربما قبل ذلك، ولم تنته في 4 آب 2020.
جاءت الثورة لتجعلها قضية القضايا ولتدرجها بنداً أول وعنواناً لكل الحلول.