إزاء التصاعد الجنوني لسعر صرف الدولار الأميركي في السوق السوداء، بالتزامن مع الارتفاع المتواصل لأسعار المحروقات، دون أن تبادر حكومة تصريف الأعمال إلى القيام بما هو مطلوب منها لوقف هذا الانهيار، في موازاة استمرار مسرحية التعطيل الحكومي المفتوح على كل الاحتمالات، كان لا بد للانتفاضة الشعبية أن تستعيد وهجها، وللساحات أن تحتضن مجدداً جمهورها الغاضب الذي يرفض أن يبقى وقوداً لهذه السلطة المتحكمة برقاب الناس، دون أن تبادر إلى اتخاذ أي خطوة من شأنها إيقاف هذا النزيف الاقتصادي والمالي، فيما كل المؤشرات تقول أن الوضع ذاهب إلى مزيد من التأزم على كل المستويات، والذي سيقود إلى انفجار اجتماعي لم يعد موعده بعيداً، في ظل التراجع المخيف على كافة المستويات، ووسط تحذيرات خارجية من أن لبنان فقد مناعته، وأنه بات من الصعوبة بمكان توقع نجاح عملية إنقاذه، إلا من خلال أعجوبة قد لا تتحقق.
وتشير المعطيات المتوافرة لمصادر سياسية، أن هناك مرحلة بالغة الخطورة تنتظر لبنان، مع اتساع رقعة الانهيار السياسي والاقتصادي، وصولاً إلى الأمني إذا لم تتمكن القوى العسكرية والأمنية من التعامل مع المستجدات بطريقة تمكنها من إفشال ما يجري التخطيط له على الصعيد الداخلي. وهذا ما ظهر من خلال التوترات الأمنية التي رافقت الاحتجاجات في العديد من المناطق، في ظل معلومات قالت بوجود مخططات لزعزعة الاستقرار الداخلي، بذريعة الاحتجاجات المطلبية، وهذا ما يتحسب له الجيش والقوى الأمنية، حيث صدرت أوامر بوجوب التعامل بحسم مع كل الذين يحاولون توتير الأجواء الأمنية وإثارة الاضطرابات في أكثر من منطقة، بهدف صرف المطالب المعيشية عن وجهتها الحقيقية.
وترى المصادر أنه من الطبيعي أن يتواصل حراك الناس، لأنه من تشخيص ردة فعل الناس، فإن السبب الأساسي هو صدمة الناس من وصول سعر الدولار إلى عتبة عشرة آلاف ليرة وشعورها بأنه لا يوجد ضابط إيقاع لفرملة اندفاعة الورقة الخضراء، وأن الأوضاع تزداد تدهوراً، في ظل التراجع المخيف للأوضاع الاقتصادية والمالية، مع تعثر تشكيل الحكومة الذي فاقم المخاوف من وصول الأمور إلى الحائط المسدود. وبالتالي أمام هذا الواقع فمن الطبيعي أن تخرج الناس إلى الشارع، بعيداً من كل نظريات المؤامرة، والقول أنها تحركات منظمة، معتبرة أن الناس لم تتوسل الشارع إلا بعدما وجدت أن هناك من يعيش على كوكب آخر، غير مبالٍ بأولويات اللبنانيين واهتماماتهم. وتشير إلى أن أحداً لا يستطيع تقدير الاتجاه الذي تسلكه الأمور في المرحلة المقبلة. لكن لا شك أن الأمور وصلت إلى مكان يصعب العودة فيه إلى الوراء، بعد انسداد مخارج الحلول الداخلية.
أي استقالة للنواب لا تبدل في المسار السياسي تفقد غايتها
وأكثر ما يثير الخشية من المستقبل، هو هذه العزلة التي يعيشها لبنان على أكثر من صعيد فلا وجود للدولة التي أضحت مشلولة وغير موجودة، فيما المواطن المغلوب على أمره يئن من الوجع، في وقت يبدو من الصعوبة بمكان الخروج من هذا المأزق من خلال تشكيل حكومة في ظل وجود هذه الطبقة السياسية التي تمسك بمفاصل البلد،. لذلك فإن الحكومة لن تحقق ما تصبو إليه الناس التي تسعى من خلال تحركاتها إلى إسقاط كل السلطة. وإن كانت قوى سياسية تحاول توظيف هذا التحرك بما يخدم أهدافها السياسية، والتي يكون من ضمنها الذهاب إلى تشكيل حكومة تخرجها من مأزقها الذي وصلت إليه، بالنظر إلى النتائج التي استجدت بعد دعوة بكركي إلى عقد مؤتمر دولي من أجل لبنان. ولذلك فإن هذه القوى تستطيع شراء الوقت من خلال وجود حكومة دون تقديم علاجات حقيقية وفعلية للأزمة الراهنة.
وتعتبر المصادر أن ما طرحه رئيس الجمهورية ميشال عون من خلال الأسئلة التي وجهها إلى حاكم مصرف لبنان، يشكل جزءا تقنيا صغيرا من الأزمة القائمة التي ينبغي البحث عن الوسائل التي تمكن اللبنانيين من تجاوزها. والسؤال الذي يطرح، هل أن الفريق الحاكم باستطاعته تقديم الإصلاحات المطلوبة؟ وهل بإمكانه فك عزلة لبنان؟ وهل يستطيع إخراج لبنان من هذا الوضع الكارثي؟. وتشير إلى أن هذا الفريق يحاول باستمرار حرف الأنظار عن مسؤوليته في هذا الموضوع، بإثارة ملفات أخرى، لكي يدافع عن وجوده واستمراره ولا يريد الخروج من موقعه، لأن أولويته البقاء في السلطة.
وفي الوقت الذي دعا رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع إلى استقالة باقي النواب، فإن المصادر تعتبر أن أي استقالة لا تبدل في المسار السياسي والوطني، فإنها تفقد غايتها، مشيرة إلى أن استقالة مجموعة من النواب لم تقدم شيئاً، ولم يتبدل أي شيئ، وهذا يعني أن استقالة نواب «القوات» منفردة، لا يمكنها أيضاً أن تبدل في المشهد الداخلي، إلا إذا كانت هناك استقالة جماعية لكل النواب خارج الأكثرية النيابية، لإعادة انتاج سلطة جديدة، ومن أجل تبديل هذا المشهد. باعتبار أن المطلوب صدمة سياسية، يمكن أن تتحقق عن طريق هذه الاستقالة، وإلا خلاف ذلك فإن الأمور ستبقى على ما هي عليه اليوم.