IMLebanon

«الثورة» و«الثورة المضادّة»: إسقاط عون أم الحريري؟

 

ليست المرة الأولى التي تجبه فيها البلاد اضطرابات صاخبة وفوضى أمنية ناجمة عن غضب واحتجاجات شعبية، غالباً ما كانت تقودها الاتحادات والنقابات والأحزاب. لكنّها المرة الأولى التي تبدو أكثر اتّساعاً وأعمّ من تجربة الأيام الأولى من 17 تشرين الأول 2019

 

ما يجري في البلاد منذ يومين يغرقها في فوضى واضطرابات يشوبها الغموض والألغاز، وربما استعصاء الفهم. يشترك فيها القتيل والقاتل، المحكوم والحاكم، العاصي والمعصى عليه، مع أن أحداً لم يعد يسعه التفريق ما بينهما. ما تشهده بيروت والمحافظات لا يحدث للمرة الأولى، لكنه يقود إلى ما لا يتحسّب له أحد.

 

في الغالب تقع «الثورة» أولاً، ثم تليها ــــ عند الضرورة إذا تطلّبت ــــ «الثورة المضادة». ما يجري الآن أن «الثورة المضادة» استبقت «الثورة» الى الشارع، وهما تلعبان على أرض واحدة، تداخلت معهما شعاراتهما وعناوينهما على نحو لم يعد في الإمكان تمييز هذه عن تلك. يقود الحراك الشعبي حملته على الطبقة السياسية والفساد منذ عام 2019، فيما الأحزاب في مهمة موازية في الوقت نفسه، تقود حملة على الطبقة السياسية والفساد أيضاً، من غير أن تبدو أنها جزء منها أو معنيّة بالاتهام. كلاهما يرفع من نبرة تصعيده وتشدده على الطرق وعبر الإعلام، فيما لم يعد معروفاً حقاً مَن هو المستهدف، وعلى مَن تصوِّب «الثورة» و»الثورة المضادة» ما دام النقيضان في الشارع نفسه، وداخل الطوائف إياها، ويستخدمان أسلحة الاحتجاج ذاتها.

عرف لبنان ثنائية «الثورة» و«الثورة المضادة» للمرة الأولى، الوحيدة الى الأمس القريب، عام 1958 على أثر انطفاء الحرب الأهلية الصغيرة بعد شهرين فقط من اشتعالها. بدأت بنزاع داخل السلطة الجديدة المنبثقة من انتخاب الرئيس فؤاد شهاب، وانتقلت الى الشارع من أجل تصحيح الخلل وإعادة التوازن الى السلطة الجديدة تلك، من ثم دخلت البلاد في سلام طويل استغرق طوال ولاية شهاب. لم تنجم «الثورة المضادة» عن اندلاع الحرب الأهلية في مواجهة «الثورة»، بل أتت كي تنقلب على محاولة تجيير نتائج انطفائها لمصلحة فريق ضد فريق آخر، كلاهما كان مشتركاً في الحرب الأهلية تلك. لم يكن المقصود من «الثورة المضادة» إسقاط الرئيس ــــ المنتخب لتوّه ــــ بمقدار ما هو تصحيح مسار نشأ من خطأ ارتكبه الرئيس رشيد كرامي بقوله إن حكومته، بعدما أبعدت الفريق الآخر، أتت «تقطف ثمار الثورة». ذلك ما حصل بالفعل في تشرين الأول لأيام قليلة فحسب، انتهت بتأليف الحكومة الرباعية التي ضمّت الطرفين المتناحرين.

 

مذذاك لم تتكرر تجربة «الثورة» و«الثورة المضادة». بيد أن لبنان عرف في العقود التالية، قبل الحرب وبعدها، اضطرابات أمنية وأعمال شغب وتظاهرات احتجاج مختلفة المشارب، كان في وسع السلطات استيعابها من غير أن تهتزّ كثيراً، ومن غير أن تكون كلها في قفص الاتّهام والإدانة، ومن غير المطالبة بتقويضها وإسقاطها برمّتها، الى أن وقع الدرس الثاني في أيار 1992 بعد أيار 1958.

ما حدث في 17 تشرين الأول 2019، ويستعاد منذ أيام بوتيرة مشابهة، فيه الكثير ممّا حدث في أيار 1992، سواء بالمشروع المرسوم أو الأدوات المنفذة أو الأهداف المتوخاة. كمَنَ المشروع في استعجال وصول رجل الأعمال رفيق الحريري الى السرايا من طريق دفع الاقتصاد الى القعر كي يتولّى هو انتشاله، بينما كمنت الأداة في مصرف لبنان بحمل حاكمه ميشال الخوري على وقف التدخل في السوق وتحريض الأحزاب على توزيع الدواليب في الشارع. أما الأهداف، فليست سوى التعويل على هدم الليرة والتلاعب بالعملة الصعبة بغية التحضير لطبقة سياسية متماسكة تقود مرحلة اتفاق الطائف. لم يكن الحريري وهو أقوى اللاعبين بقدراته المالية واستعانته بالمصارف اللبنانية، ولا الرئيس الياس الهراوي، ولا مسؤولين سوريين، بعيدين من الضلوع في هذا الانفجار المعدّ بعناية. اشتعل الشارع حينذاك من خلال تحريك الاتحادات والنقابات والأحزاب وبثّ الفوضى، فانتهى المطاف في دمشق على ربط وصول الحريري الى رئاسة الحكومة بإجراء انتخابات نيابية مبكرة تنشئ غالبية مرجّحة لسوريا، تمكّنها من السيطرة على البرلمان، ومن خلاله الإمساك بالرجل وتقييد حركته، وضبط حجمه المنتفخ. مذذاك، حتى اغتياله عام 2005، كان الحريري أقوى حلفاء سوريا، يستجيب لما تطلبه كي يبقى في السلطة، فلم يأتِ يوماً على تبنّي تطبيق الشق المتعلق بها في اتفاق الطائف وهو إعادة انتشار قواتها، حتى بعدما بات حليفه وليد جنبلاط يجهر به.

عندما انطلقت «الثورة» في 17 تشرين الأول 2019، كان الاعتقاد داخل السلطات أنها فورة لا تلبث أن تخبو، بعد أن تضجر من نفسها في الشارع فتخرج منه. سرعان ما بدا الأمر مختلفاً، مع ممارسة مصرف لبنان كما المصارف ضغوطهما، فإذا التوازن الوحيد القابل للحياة مع «الثورة» هو «الثورة المضادة» تقودها الأحزاب، ما أتاح انسحاب الحراك بضعة أشهر. يومذاك لم يوصف هذا التوازن بـ«ثورة مضادة»، بل بحملة مشاغبين و«زعران» معتدين لتخويف أولئك. على أن التطور الذي تشهده البلاد في الأيام الأخيرة يتّخذ منحىً مختلفاً، هو أن ثمة «ثورة مضادة» هذه المرة، في معزل عن نظيرتها، تقود معركة بعنوان مختلف شبيه الى حد بما حصل في أيار 1992، عندما أُطيحت حكومة الرئيس عمر كرامي. بدا أن الأمر سهل أيضاً في خضم حراك 17 تشرين الأول 2019، حينما استقال الرئيس سعد الحريري بذريعة أنه يستجيب لإرادة الغاضبين والمحتجّين. وهو ما قاله كرامي قبله.

 

ما بين أعوام 1952 و1958 و1992 تحرّك الشارع ضدّ السلطة وفي خدمتها

 

 

ليس صعباً على مَن يجول بين «الثوار» في الشارع، يصغي إليهم ويراقب حركتهم، وردود فعلهم، وألفاظهم ونبرة احتجاجهم، أن يكتشف أن عدداً وافراً منهم موجود في آن في «الثورة» وفي «الثورة المضادة». بل تبدو الوظيفة المحددة لـ«الثورة المضادة»، المختلفة عن تصدّيها لحراك 17 تشرين الأول، أنها تخوض معركة موازية للحرب العلنية الدائرة بين قصر بعبدا وبيت الوسط. في حرب الرئيسين، بات من المتعذّر توقّع تعايش أحدهما مع الآخر في سلطة إجرائية واحدة. لم تعد المشكلة شخصية ناجمة عن طباع متناقضة لجيلَين متباعدين، ولا هي خلاف على صلاحيات دستورية كلاهما يعرف نطاق حدودها والقيود الملزمة له فلا يسعه تجاوز الآخر، وليس استعصاء اتفاقهما على توزير أسماء وتوزيع حقائب. ما باتت عليه علاقة الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري أنها غير قابلة للحياة، ما يقتضي خروج أحدهما من منصبه كي يبقى الآخر. فرض خروج كهذا على أي منهما متعذّر بآليات الدستور والعناد الشخصي. لا الحريري مستعدّ للتخلي عن تكليفه مهما طال أمد التأليف، ولا عون في وارد الاعتقاد أنه عثرة في طريق الحل.

الواقع أن البعض يميل الى الظنّ أنّ في الإمكان نقل صراعهما الى الشارع وإن ببث الفوضى، بالتزامن مع انهيار الاقتصاد والعملة الوطنية، وتالياً استعادة سابقة أيلول 1952 عندما دعت المعارضة الى إضراب عام في البلاد، فشُلّت، ما قاد الرئيس بشارة الخوري فجر 18 أيلول الى اتخاذ قرار شخصي، رغم وقوف الغالبية النيابية الى جانبه، بالتنحي. من بعده، فعل الأمر نفسه كرامي في 6 أيار 1992 عندما اختار استقالة حكومته تحت ضغط الشارع.

ما يحدث في الشارع وتفاقمه تحت عناوين الضائقة المعيشية الخانقة، من دون أن تكون ثمة قضية واضحة تشبه ما شاع في شعارات 17 تشرين الأول، يتوسّل هدفاً واضحاً تقوده «الثورة المضادة» التي تمثّل ائتلاف معارضي عون بغية دفعه بالقوة الى مغادرة السلطة. الرجل بات وحيداً، محاطاً بالخصوم والأعداء.