مع دخول «هبّة العشرة آلاف» أسبوعها الثاني، لم يعد ممكناً لأحد أن ينكر حقيقة أن لبنان قد دخل فعلاً في مرحلة الفوضى، أو على الأقل المرحلة الأولى منها.
ما تشهده يوميات لبنان بات يَشي بأنّ مرحلة الانهيار، بكل تداعياتها المالية والمعيشية والسياسية والأمنية، قد باتت واقعاً ينبغي على الكل أن يتعامل معه أو على الأقل أن يتعايش معه.
مُرعبة هي مشاهد «السوبرماركت» التي باتت ميادين للصراع على الغذاء في بلد كانت موائده عامرة حتى الأمس القريب. مرعب هو أيضاً رقم الـ ١٠٤٥٢ ليرة الذي بلغه سعر صرف الدولار في السوق السوداء بكل ما ينطوي على رمزية متصلة بالكيان اللبناني.
أما المشهد اليومي على «الأوتوسترادات» فلم يترك مجالاً للشك في أنّ لبنان نحو مزيد من الفوضى، في ظل المحاولات التي يبذلها أكثر من طرف للاستثمار في الأزمة الاقتصادية وامتداداتها في الشارع لتصفية حسابات سياسية، رخصت معها البلاد، كما عبادها، لدرجة أنّ الثمن بات مجرد «ثلث معطل» أو «حقيبة سيادية» في حكومة يفترض أن تحمل شعار «الانقاذ» الذي باتت فرصه متضائلة يوماً بعد يوم.
صحيح أنّ انفجار الشارع هو النتيجة الطبيعية لسياسات الإفقار الفاجرة التي ارتقت الى مستوى الجريمة ضد الانسانية، إلّا أن الجريمة الأكبر هي استغلال موجة الاحتجاجات المطلبية المحقة، لغايات سياسية، لا تخلو من الشعبوية، وتدفع بالبلاد نحو فتن عابرة للمناطق، لاحت بوادرها منذ بات الشعب مقسماً بين «مشعلي الإطارات» وبين «العالقين في السيارات»، ومنذ باتت لقمة العيش عنواناً لشعارات طائفية ومذهبية.
ضمن هذه العبثية تلعب أوركسترا ممتدة من الشمال إلى الجنوب، مروراً ببيروت والبقاع، معزوفة موت الجمهورية، لتتقاطع الاجندات المشبوهة، ببعديها الداخلي والخارجي، عند سردية «لقمة العيش» و»الكرامة الانسانية»، والتي باتت بدورها سلعة تشترى وتباع في بازار الصراعات السياسية التي تجاوزت طابع المناكفة باتجاه ما هو أكثر.
هكذا يمضي لبنان أكثر فأكثر إلى الفوضى المتسلسلة، التي تتحكم بكل المفاصل السياسية، لا سيما في ظل تعطل المبادرات منذ قرابة الشهر، على أقل تقدير، وهو ما أفرز غضباً شعبياً سرعان ما وجد من يتلقّفه في سوق الصرف السوداء، ليصبح بمثابة الصاعق الذي اشعل اول إطار مطاطي في الشارع.
ومن المؤكد أن استمرار الجمود لن يجعل الأمور تقف عند هذا الحد، فمن يراقب تدحرج كرة النار اللبنانية لا يحتاج الى جهد كبير ليتوقع أن ما نشهده اليوم ليس سوى «تسخين» أولي لسيناريوهات أكثر تطرفاً، من شأنها أن تزجّ بالبلاد في أتون الفوضى الشاملة.
يمكن توقع الأسوأ اذا ما نظرنا مثلاً الى تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا «الإسكوا»، الذي يشير الى أن التدهور الاقتصادي المستمر في لبنان منذ بداية العام الحالي ينبئ بارتفاع نسبة الفقر التي وصلت إلى 55 في المئة من السكان خلال العام الماضي. ويمكن إدراك حجم الكارثة إذا ما احتسبنا متوسط الدخل الذي كان بحدود 700 ألف ليرة، ما يعادل نحو 470 دولاراً وقد وصل الآن الى أقل من 64 دولاراً.
ويمكن توقّع الأسوأ أيضاً طالما أن اهل الحل والعقد يشاهدون السفينة اللبنانية وهي تغرق، ولا يقابلون ذلك الا بمنطق الانكار المرَضي، وسط تخبط وتجاذبات ولا سيما على جبهة التأليف الحكومي التي يغيب عنها أي حراك جدي، وتحضر فيها فقط الحروب الصغيرة بين التيارين البرتقالي والأزرق.
هكذا يقف الكل أمام ما يجري بمنطق عفا عليه الزمن، أي بتبادل الاتهامات، فيما الكل شريك في الجريمة، التي لا يمكن الاغتسال والتطهر منها إلا بالحد الأدنى من تجاوز الانانية السياسية المدمرة، والمتمثل بالذهاب الى المخرج الوحيد للأزمة الاقتصادية، وفتح كوة في في جدار الانسداد السياسي الآخذ في التعقيد، عبر الشروع اليوم وقبل الغد في تأليف الحكومة وتقديم المصلحة الوطنية العليا على ما عداها من طموحات فئوية هدامة، بات البلد كله معها معلقاً بحبل مشنقة تلتف حول عنق اللبنانيين، الذين لم يعد يهمهم لا «ثلث معطلاً» وحكومة من ثمانية عشرة أو عشرين أو أربعة وعشرين وزيراً… الى آخر تلك المصطلحات التي لا تطعم جائعاً ولا توفر الدواء لمريض.
معادلة الخروج من الازمة باتت واضحة: تشكيل حكومة انقاذية، اقرار خطة اقتصادية اصلاحية، الحصول على قروض بالعملة الصعبة. ومن دونها لا يمكن توقع سوى التدحرج السريع لكرة لهب الفوضى المدمرة، لا سيما أن منطق الأشياء يَشي بأنّ ما نشهده اليوم على طرقات لبنان لن يكون سوى «بروفة» للفوضى الشاملة، التي لن يسلم منها أحد، يوم تتحول عمليات قطع الطرق الى عمليات تخريب ونهب وسلب بالقوة.
وما صرخة قائد الجيش بالأمس، سوى مؤشر على أنّ البلاد ذاهبة الى مثل هذا السيناريو، الذي سيصبح في سياقه كل لبناني مذعور من أخيه في البلد، ليس فقط بالمنطق الطائفي بل أيضاً بالمنطق الطبقي، الذي يجعل أي صدام هذه المرة – سواء كان فوضى أو حرباً اهلية – محكوم باعتبارات ومعايير واشكال عنف ربما لم يشهدها لبنان حتى في ذروة حربه الأهلية.
كل ذلك يتجاهله اولئك الذين يستمرون في التعنت، ويصرّون على تعطيل سكة حل الازمة، ببيانات ومواقف صبيانية لن تنتج سوى مزيد من رفع منسوب التوتر السياسي، وفي الوقت ذاته المخاطرة بإضافة عوامل تعقيد اضافية في الاشتباك السياسي، ما يدفع بالبلد إلى مزيد من الانهيار، لا سيما اذا ما تقاطع ما سبق مع تعقيدات الاشتباك الاقليمي الذي اثبتت التجربة انّ لبنان سيدفع ثمنه غالياً، سواء كانت نتيجته الحل أو التصعيد!