فجر الإثنين المُنصرِم، إفترش الثوّار الشوارع والطُرق، وقُطعَت أوصال الوطن، وهدرت مُحرّكات الثورة مُجدّدا، على وَقْع ارتفاع جنوني للدولار الأميركي، حتى تجاوز العشرة آلاف ليرة لبنانية للدولار الأخضر الواحد.
إستيقظت السُلطة على حناجر ثوّار، صَدَحَتْ مُطالبةً بإسقاط النّظام، لِثبوت فشله في إدارة الأزمة، وكيف لهذه السلطة أن تصِف الدواء، ما دامت هي العلّة والدّاء؟.
وعوض أن تستنفر السلطة بِقصد مُعالجة لُبّ المشكلة، بادرت إلى دعوة المجلس الأعلى للدّفاع، وإتّخذت قرارات حازمة بحقّ منصّات إلكترونية، مُعتقدةً أن المشكلة تكمُن في تفلُّت هذه المنصّات، وليس في الفساد وسوء الإدارة والذي اتّبعته لِعقود ونيّف من الزمن. مع تسجيل التحفُّظ حول صلاحيات المجلس الأعلى للدفاع، في اتخاذ هكذا قرارات.
تهيّأ للسُلطة، أنّها وبِلَجمِها حركة هذه المنصّات والتي تعكس الواقع المالي والنقدي، في استطاعتها لَجْم التدهور في سعر الصرف…كذا…
فيما الواقع، أنّ مُعالجة الأزمة في حاجة إلى طاقم سياسي جديد، وانتخابات نيابيّة مُبكرة، لا أكثر ولا أقلّ.
حاولت السُلطة ولمّا تزل، إقناع الثوّار أن الحلّ سيتجسّد بحكومة مُنتظرة باتت على قاب قوسين أو أدنى من الولادة، بعد تذليل البعض من العقبات بين رئيس الدولة والرئيس المُكلّف… كذا…
فيما الحقيقة أنّ هذه الحكومة وفيما لو وُلِدت، لن تكون إلّا هدرا إضافيّا للوقت، وتأجيلاً غير مُبرّر للحلول الناجعة، والمُتمثِّلة حصرًا بالإنتخابات النيابية المُبكرة، ولا شيء غيرها.
والمُضحِك المُبْكي في آن، إتّهام السُلطة، فريق سياسياً بأنّه خلف التظاهرات وقطع الطرق. مع العلم أنّ مَنْ يفترش الشوارع هُم الثوّار، الذين جاعوا، وباتوا على شفير الموت والفقر المُدقِع وليس مُحازبي الأحزاب، ولا شيء يمنع أن يكون مِن ضِمنهم مَن يؤيّد طرفاً أم توجُّهاً. ومن جهة أخرى، لو قرّرت الأحزاب المُشاركة لَكان المشهد مُختلفاً، بكل ما للكلمة مِن معنى.
أدركت السلطة وَلَوْ مُتأخّرة، أنّها قد فقدت زمام التحكُّم بمؤيّديها ومُحازبيها. وأنّ هؤلاء استيقظوا على فاجعة اقتصادية ومالية واجتماعية مُدوّية. ولإعادة استيعابهم، أُطلقت معركة الصلاحيات، لِتوعية الغرائز الطائفية والمذهبية. وذهب كل فريق إلى استثارة النعرات، منهم مَنْ سمّاها معركة صلاحيات الرئيس، ومنهم مَنْ سمّاها معركة صلاحيات الرئيس المُكلّف. فيما الواقع، إنّ هذه الشعارات لا تهدف إلّا إلى شدّ العصب، فمصلحة لبنان ليست في حرب صلاحيات، إنما في التعايُش واحترام الدستور والقوانين والميثاقية البعيدة عن كلّ تفسير مصلحي.
علماً أنّ الدستور واضح لجهة الصلاحيات، فالمادة /53/ من الدستور واضحة، كذلك المادة /64/ منه. والحكومة لا يُمكن لها أن تُشكَّل إلّا بموافقة رئيس الجمهورية والرئيس المُكلّف. ورئيس الدولة له الصلاحية المُطلقة في قبول التشكيلة التي يُقدّمها له الرئيس المُكلّف، أو ردّها، أو طلب تعديلها. لكن المُشكلة ليست في النصوص إنما في النفوس، حيث ان كلّ فريق يسعى إلى تحقيق مكاسب على حساب فريق آخر، فيما النّص صريح ولا يقبل أي تأويل أو تفسير.
عجزت السلطة عن مواجهة الشارع، فكلّفت الجيش مهمّة قمع التحرُّكات، لكنّها فوجئت بالموقف المُشرِّف لِقائد الجيش، الذي حاور الثوّار وتوصّل معهم إلى قرار بِفَتح الطُرق، من دون أي مواجهة عنفيّة.
والفصل الأخير من مسرحية انهيار السلطة تمثّل بتلويح رئيس الحكومة المستقيلة بالاعتكاف، ولهذا التلويح بحث آخر:
فالبعودة إلى تاريخ السياسة اللبنانية يتبيّن أن لبنان عرف محطّات عدة مع الإعتكاف، ففي العام /1969/ إعتكف الرئيس رشيد كرامي عن تشكيل حكومة جديدة، لكنه استمّر في تصريف أعمال حكومته المستقيلة. وفي العام /1975/ إعتكف أيضا الرئيس رشيد كرامي مع بداية الحرب اللبنانية، ما اضطُرّ الرئيس سليمان فرنجية لأن ينقل بعض الوزارات منه إلى الرئيس كميل شمعون الذي كان وزيرًا للداخلية آنذاك. كذلك، أقدم الرئيس الشهيد رفيق الحريري على الاعتكاف إثر خلافات مع الرئيس الياس الهراوي.
أمّا بالاطّلاع على أحكام الدستور اللبناني، فلا وجود لأي مُصطلح يُفيد الاعتكاف. فإمّا أن يكون رئيساً لحكومة قائمة وفاعلة، وإمّا أن يكون رئيساً لحكومة مُستقيلة. أمّا أن يكون رئيساً مُعتكفاً لحكومة مُعتكفة فذلك مخالف للدستور وللمبادئ الدستورية.
حتى أنّه وأبعد من ذلك، يمكن لمجلس النوّاب، وعملاً بأحكام المادة /70/ من الدستور، أن يتّهم رئيس الحكومة (والذي يتّخذ قراراً بالإعتكاف) أمام المجلس الأعلى لمُحاكمة الرؤساء والوزراء، لعلّة إخلاله بواجباته الوظيفية.
مع الإشارة إلى أنه عندما يعطي الدستور لرئيس الحكومة صفة «رئيس مجلس الوزراء»، هذا يعني أنّ رئاسة مجلس الوزراء ليست مركز شرف، إنما هي إحدى السلطات الدستورية، وهو ملزَم بممارستها. وامتناع رئيس الحكومة عن ممارسة سلطته «كرئيس لمجلس الوزراء» أو «اعتكافه» يُرتّب عليه مسؤولية دستورية تجاه الوطن وتجاه الشعب، وهو مخالف للدستور. فالاعتكاف هو هرطقة دستورية، يُحاسب عليها القانون الدستوري، فَرَجُل الدولة لا يعتكف، كل ذلك تحت طائلة اتّهامه بالإخلال بالواجبات الوظيفية، سنداً لأحكام المادة /70/ من الدستور.
فممارسة السلطة هي مسؤولية أخلاقية وضميرية ووجدانية ووطنية، قبل ان تكون مسؤولية دستورية مُلزمة.
وبالتالي، التلويح بالإعتكاف لا يستقيم، وَلَوْ كان الهدف منه الحضّ على تشكيل حكومة عتيدة، وَلَوْ كان المقصود منه رسالة سياسية. فَرَجُل الدولة لا يعتكف، ودولته تُحتضر، وشعبه يلفظ أنفاسه الأخيرة.