توقّف المراقبون أمام مضمون بيان «هيئة تنسيق الثورة» ـ رقم 35، فعُدّ في شكله ومضمونه مصارحة غير مسبوقة مع بيئتها واللبنانيين، بتأكيدها رفض قطع الطرق بدعوة «مجهولة الأبوة» موجهة الاتّهام الى «أحزاب السلطة» بارتكاب الأحداث التي تسببت بسقوط شهداء. وهو ما طرح السؤال جديّاً هل يمكن للسلطة أن تقلّدها في تعاملها مع مواطنيها بالقليل الذي يمكن أن يقود الى فهم ما يجري؟ وما الذي يمنع ذلك؟
ليس من السهل توفير أي سيناريو او معلومة ترضي فضول اللبنانيين بالحديث عن المتوقع من أحداث في ظل الغموض الذي يلف الكثير من الوقائع. فالبعض منها كان رهن تطورات الأسابيع والأيام قبل ان يتحول مدار أخذ وردّ بين ساعة وأخرى، وهو ما يؤشر الى احتمال وقوع أي حدث يغيّر في الوقائع بين لحظة وأخرى. فالمستجدات الطارئة واردة في أي لحظة كأن يكشف عن لقاء او اتصال او عن مضمون اجتماع سرّي بقي طي الكتمان في ظل ما هو متخذ من إجراءات أدّت الى إقفال الصالونات الرسمية والسياسية والحزبية ومكاتب الوسطاء على الكثير من الأسرار.
وعلى خلفية ما قادت اليه هذه المعادلة توقف المراقبون أمام مضمون بيان «الثورة» الذي حمل «الرقم 35» ولمّح للمرة الأولى الى ما جرى في إحدى ليالي الانتفاضة، وتحديداً ليل الأحد الاثنين الماضي، من خرق لشبكاتها ومجموعاتها الناشطة، فاستدرج أعضاؤها الى الشارع برسائل نصية على «الواتساب» من دون علم مسؤوليها من قادة الحراك الحقيقيين.
فقد تحدث البيان نقلاً عن قادتها صراحة عن رفضها المتكرر عمليات قطع الطرق «المجهولة أبوَّتها». وذهبت بعيداً في اتهامها بعض أحزاب السلطة باستغلال هذا الموضوع والشروع فيه وهو ما أدّى الى ما أدّت اليه من أحداث تركزت في محيط «الرينغ» وساحتي رياض الصلح والشهداء، حيث جرى الاعتداء على الإعلاميين والناشطين بالعصي والحجارة وتكسير الخيم والمنشآت التابعة لهم..
لم يقف البيان عند هذا التلميح، بل دخل في بعض التفاصيل توصلاً الى تأكيد ما أرادت قوله في تداعيات ما حصل، والذي قاد لاحقاً الى المسيرات بالدراجات النارية والسيارات التي جالت في مناطق من بيروت وعلى أبواب الضاحية الجنوبية وصولاً الى تلك التي قصدت بكفيا وما رافقها من تحدٍّ وأعمال تكسير واصابات عدة في صفوفه والمواطنين انتهت بتدخل الجيش. وتوصل البيان الى رفع مسؤولية «قيادة الثورة» عمّا حصل من أحداث وصولاً الى ساحل الشوف والإقليم حيث سقط شهيدان في حادث سير غامض، لم تقاربه المراجع الأمنية بعد بما يجب ان تنتهي اليه التحقيقات التي تنفي وجود أيّ من المنتفضين على الطريق في تلك الليلة بعد أن اسقطت الأفلام رواية رمي السيارة بالحجارة والتسبب بالحادث. وهو ما أشار اليه البيان عند الحديث عن «الحالات التي قام فيها بقطع الطريق جماعات محسوبة على الأحزاب والجهات السلطوية»، دونما دعوة من أيّ من مكونات الثورة، ولأهداف لا تتعلق بها».
كما استغلت «قيادة الثورة» مناسبة نشر بيانها للإشارة الى البيانات «المجهولة المصدر»التي تديرها أطراف لا علاقة لها بها سعياً الى «تبني الثورة» بشكل مدسوس وملتبس يحمل الكثير من التأويل، وبهدف تشويه صورتها وأدائها وتحميلها ما لم ترتكبه لتبرير وجود من يرغب في شيطنتها تمهيداً لإعطائها أبعاداً امنية وطائفية ومذهبية خطرة لم تكن يوماً ولن تكون في حساباتها. فالجميع يدركون حساسية الموقف عندما يتصل الأمر بقطع طرق الجنوب، كما البقاع، عندما يفسر كأنه قرار بمنع التواصل بين قيادة «حزب الله» ومواقع المقاومة في الجنوب.
ولم يكتفِ البيان بذلك، فقد لفت مضمونه، بالإضافة الى ضرورة وقف محاولات إثارة النعرات الطائفية ورفع الشعارات المذهبية في «الغزوات» المتتالية التي تعرضت لها ساحات الاعتصام لتلاقي بضغوطها ما هو مستخدم بـ»الوسائل المالية والاقتصادية»، فضلاً عن «التهويل بالانفلات الأمني». وهو ما يقود حتماً الى أن الوضع في لبنان أصبح على «درجة عالية من الخطورة»، وبات يستدعي من السلطة التوقف عن «المكابرة والانكار»، ومن ثم المبادرة فوراً الى «إطلاق الاستشارات النيابية الملزمة»، وتشكيل «حكومة الإنقاذ» التي تلبي تطلعات اللبنانيين.
عند هذه القراءة المتأنية للبيان يطرح السؤال مجدداً هل ان السلطة التي استهدفها مضمونه قادرة على التعامل بالصراحة عينها التي عبّرت عنها «قيادة الثورة»؟. فتكشف أولاً عن بعض ما هو غامض، بدءاً بنشر التحقيقات التي تنهي التساؤلات المطروحة عن حادث الجية الذي ادى الى مقتل مواطنين قبل الاستمرار في استغلاله واعتباره «جريمة مدبّرة» في حق أبناء الجنوب ورفع المسؤولية عن الثورة في ما حصل.
وهل تقدر السلطة على أن تصارح اللبنانيين بكشف الكثير من الحقائق المغمورة التي ترافق التحضير لاستشارات التأليف قبل التكليف، وما يرافقها من خرق فاضح للدستور، كما بالنسبة الى حقيقة المواقف الملتبسة التي تضج بها مصادرها في وسائل الإعلام وما يرافقها من موجات تحريض وتهشيم عبر الجيوش الإلكترونية التي تمتلكها بعض القوى، وفد جنّدت لها وسائل التواصل الاجتماعي التي تسببت «أخبارها الكاذبة» بالكثير مما يمكن أن يؤدي الى إحياء الفتن المذهبية التي استحضرت مشاهدها في لحظات في بعض المناطق الحساسة، كما في الشياح وعين الرمانة وقصقص والكولا وغيرها من مناطق التماس المذهبية.
وهل تستطيع السلطة الإسراع في الاعتراف ببعض أخطائها وبحسم المواقف من كل ما هو مطروح، فلا يحتاج الأمر سوى الى قرارات جدية وحاسمة تتخذ لتسلك الأمور مجاريها الدستورية والسياسية بدل التلهي بالنقاش حول جنس الملائكة وتبادل الاتهامات وتحميل المسؤوليات؟ وهو أمر يدرك خطورته كل المعنيين فلم يعد اللبنانيون قادرون على تحمّل المزيد من التشنج الذي يضاف الى مخاوفهم على مستقبلهم وأمنهم وتضيء على مصير مدّخراتهم في المصارف والمؤسسات المالية. فكيف إذا أضيفت اليها التحذيرات التي اطلقتها الأجهزة العسكرية والأمنية؟ فهل هناك من يسمع ويرى؟ فيُقدم على ما يجب أن يُقدم عليه؟.
قالت «الثورة» كلمتها في ما تواجهه من مصاعب فلماذا تخفي السلطة أخطاءها؟