تبسط أحزاب الحكم أجندتها على التحركات الشعبية الاحتجاجية ساحبة البساط من تحت أقدام المجموعات المدنية المستقلة التي تتجنب تلك الاحزاب من دون الانسحاب من الشارع.
هذا واضح في المناطق حيث الحضور الحزبي الطاغي الذي يشكل «تيار المستقبل» خاصة رأس حربته في موازاة ظهور لحركة «أمل» في مناطقها وبعض النزول النسبي لقوى مسيحية كانت استجابت لدعوة البطريرك الماروني بشارة الراعي وقائد الجيش جوزف عون، للانسحاب من الشارع سابقا .
وبينما يحاول الحراك الشعبي استعادة المبادرة بصعوبة كبيرة وإن تمكن من الحضور في بعض مناطق بيروت وطرابلس والبقاع والجبل وحتى الجنوب، الا ان من الواضح ان زمام المبادرة هو في يد الأحزاب التي انتشر مناصروها في شكل منظم لقطع الطرقات ومهاجمة المحال التجارية وحتى الدكاكين وكل من يتهمه الناس بزيادة معاناة اللبنانيين، في الوقت الذي يبدو ان على الحراك الانسحاب من شارع ملتهب ومعرض للاشتباك في أية لحظة كما حدث أمس.
ويبدو اننا كنا امام مشهد جديد منذ تاريخ الثاني من آذار، موعد اعادة انطلاق الاحتجاجات التي تتخذ موضوع سعر صرف الليرة إزاء الدولار عنوانا محقا لشتم المسؤولين.
وقد باتت المجموعات المدنية اليوم في موقع الدفاع، وهي تناثرت متظاهرين في أماكن رمزية مثل وسط بيروت، لكنها تخبر الكثير عما يدور على الارض حيث باتت الوجوه معروفة بالنسبة الى كثيرين في الحراك.
ولعل ما حصل في العاصمة يشكل رمزية كبيرة، واذا كان «المستقبليون» قد نزلوا بقوة الى التقاطعات في مناطقهم، الا ان ذلك لا يلغي ان ما يحصل من غلاء في المعيشة بات خارج نطاق كثيرين على التحمل.
الحراكيون الذين نزلوا بتنظيم لافت وسلمية يوم الجمعة الماضي في مسيرات ضمت نحو 13 مجموعة ليُرفع الصوت وصولا الى مجلس النواب، تركوا المشهد للحزبيين ولدخلاء عبثوا بالمشهد السبت الذي تلاه والذي استمر في الايام الماضية.
سيحاول المدنيون في الحراك وضع بصمتهم على الاحداث وثمة أفكار لذلك مثل اقامة تجمعات مركزية في الويك اند بينما يركزون على مركزية العنوان في وسط الاسبوع وتترك المركزية للعنوان فقط على ان تتخذ كل مجموعة ما تراه مناسبا على الارض وفي المناطق، وثمة رغبة بأن تقام عشرات التحركات قد تصل الى نحو الـ14 نشاطا موازيا على الارض.
وفي ظل التصاعد الجنوني في سعر الدولار واستعار الازمات المعيشية وتعمق الازمة الحكومية، يبدو ان من لم ينزل الى الشارع من الحزبيين قد وفر بدوره الغطاء للتحركات في بعض المناطق.
ومن الملاحظ هنا ان ثمة في بيئة «الثنائي» من لا يزال في موقع المقاومة لكنه يتألم من الوضع، بينما يضع اللاعب الاكبر في البلاد «حزب الله» الخطوط الحمراء لما يراه تعديا على الرموز كما فعل حين انتشر في شوارع الضاحية الجنوبية في شكل قد لا يلاحظه البعض، ليمنع اي خروج عن تلك الخطوط كما اراد متظاهرون من «أمل» لا يزالون يرددون الرغبة في الصعود الى بعبدا للتصويب على رئيس الجمهورية ميشال عون.
اما من ناحية زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري، فهو يتحرك في موازاة ما يجري على الارض ولا يزال حاصلا على شبه اجماع داخلي ويتمسك «حزب الله» به معارضا رغبة العهد بالتخلي عنه. وعلى رغم عدم توافر شروط زيارته الى السعودية، فإنه يخوض معركة سياسية ذات عناوين براقة كحكومة مستقلين (من دون الحزب) ليرمي الكرة في ملعب رئيس الجمهورية الذي يضغط عامل الوقت عليه كثيرا. والرئيس المكلف يكون بذلك قد حصل على رضى شعبي، سواء قبلت او رُفضت شروطه.
ومن المنتظر ان يقاتل الحريري حتى الرمق الأخير للاستمرار بتكليفه فهو بذلك يحافظ على صلته الآيلة في التراجع مع الحكم، لعلمه بأن خروجه منه قد يوجه ضربة قاصمة الى دوره في النظام والسلطة القائمة وحتى الى شعبيته على الارض.
تراجع.. فتصاعد في شعبية «المستقبل»
يقارن البعض بين ما يجري اليوم وذلك الذي حصل في العام 1992 حين سقطت حكومة عمر كرامي في الشارع مع ارتفاع مخيف بالدولار في تلك الايام، ليمهد الطريق لمجيء رفيق الحريري بعدها بأشهر بعد فترة انتقالية لرشيد الصلح لم تكن سوى معبرا للحريرية.
قد يصح هذا التحليل وقد يخطىء، لكن الرئيس المكلف يشرع في بناء شرعيته الخارجية والدولية مخاطبا المجتمع الدولي بوصفه المنقذ، وواثقا من عودته الى الحكم التي يراها مسألة وقت وساخرا من الذين يراهنون على اعتذاره وتركه الامور لتكريس واقع العهد وحكومة تصريف الأعمال.
ثمة من يتحدث عن تعزيز لشعبية الحريرية منذ تاريخ 14 شباط الماضي بعد تراجع في الشعبية رصدته احصاءات «مستقبلية» داخلية، تم تعديله نوعا ما مع خطاب الحريري الذي زايد عبره في شارعه.
يعلم الحراك ان وسط الرصاص لا مصلحة له بالاصطدام مع احد في الشارع والخروج عن السلمية، لكنه يتجنب التماهي مع احزاب الحكم التي تمتطي الحراك في زمن الانهيار والتي يعتبرها الاخير ضمن منظومة واحدة ادت بالبلاد الى ما ادت إليه.
فلناحية الزعيم «الإشتراكي» وليد جنبلاط فإنه ينأى بنفسه عن الولوج في الشارع وهو المعروف باستشعار الاحداث المحيطة بلبنان، ولذلك فهو ينفتح على المعارضة الدرزية مقدما المرونة على صعيد الحصة الدرزية في الحكومة التي يراها تفصيلا في اللعبة الخارجية.
أما لناحية القوى المسيحية كـ«القوات اللبنانية» و«الكتائب» فإن الايام كفيلة برصد مآل خططهما وهما لا يريدان إزعاج الكنيسة، كما انهما لا يزالات يواجهان برفض من المستقلين كونهما شكلا ركنين اساسيين من أركان «المنظومة»، مذكرين باتفاق معراب الذي لم يجف حبره، لا بل ان الحراكيين يتهمونها مع غيرهما من احزاب الحكم بإفشال التحركات.
لكن بعد أحداث أمس في عائشة بكار، قد يكون من المفترض على الاحزاب الابتعاد عن الشارع حيث الاقتتال المذهبي، كما حدث مع انسحاب قوى مسيحية من شارعها بعد وقوع ضحايا لقطع الطرقات. ذلك ان معارك الشارع يمكن البدء فيها، لكن من غير الممكن ختمها سلمياً.