بين أولوية استعادة الدولة أو الحسابات الانتخابية وتزاحم المبادرات والاستحقاقات
في موازاة الانسداد السياسي الكبير المرافق للانهيار الكامل على كل الأصعدة، وصعوبة، أو استحالة، الإنقاذ في ظل استشراس المنظومة المتحكّمة في مواجهة الإصلاح، واستسهالها تخطي الدستور وتغطية خطف السيادة، بدا أن حراكاً متعدد الوجوه على خطّ قوى الثورة يتطلّع لانتاج ائتلافات وجبهات وتحالفات تهدف إلى تأطير الجهود تحضيراً لمواجهة الاستحقاقات لتي تواجه الكيان.
في هذا الإطار، يأتي الإعلان عن قرب انطلاق الائتلاف المدني الّلبناني من مكوّنين أساسيّين وفاعلَين في ثورة 17 تشرين، كمنصّةٍ سياسيّةٍ وطنيةٍ معارِضة من رحم وروح ثورة 17 تشرين تجمع مجموعات وشخصيات، ومتخصّصين وقادة رأي،تتطلع لتقديم بديلٍ إنقاذيّ متكامل في الرؤية والبرنامج والقيادة للوصول إلى لبنان الجديد، وهذا يحيل إلى ضرورة الكلام عن هويّة الائتلافات ورؤاها السياسيّة والإنقاذيّة، والتحديات التي تواجهها،إذ من السذاجة الاعتقاد للحظة أن معركة استعادة الدولة ستكون سهلة، ومن السذاجة أكثر الاعتقاد بأن المنظومة ستتخلى عن شبكات مصالحها وامتيازاتها وفجورها بسلميّة ووفق منطق تداول السلطة.
لا شيء يَشي بأن المعركة ستكون سهلة مع المنظومة المتحكّمة وأذرعها. لكن ما عاد جائزاً القول، أمام اللبنانيين والعالم، بأن البدائل غير موجودة، وما عاد جائزاً أكثر منحُ السلطة أسباباً للإستمرار
السيادة والحياد والإصلاح
وفي وقت يجري الحديث عن جبهة سياسيّة قيد الانطلاق تجمع أحزابا معارضة ومكونات في الثورة، أنجزَ الائتلاف المدني اللبناني، المكوّن حتى الساعة من «الجبهة المدنيّة الوطنية» ومنصّة «بيراميد» خلال أربعة أشهر من العمل الجادّ مشرعاً سياسيّاً متكاملاً،يشكّل قاعدة مناسبة لمخاطبة الشعب اللبناني، ومجموعات الثورة، والقوى المجتمعيّة الحيّة، وأصدقاء وأشقاء لبنان، ويتضمن وثيقة سياسيّة، وبرنامجاً إنقاذيّاً، وخطة عمل مرحلية، وأساسُ كل ذلك تطبيق الدّستور واتفاق الطائف وصولاً لقيام الدّولة المدنيّة، وتحقيق السّيادة النّاَجزة، وتبنّي المواطنة الحاضنة للتنوّع، وانتِهاج خيار الحياد عن الصِّراعات الإقليميَّة والدّوليَّة مع احترام الشرعيتين العربيّة والدوليّة، وتنفيذ برنامج إصلاحي مالي – إقتصادي – إجتماعي أساسُه الحوكمة السَّليمة والتخصّصيّة والمساءَلة والشَّفافيَّة والمُحاسبة، تأسيساً على الإدراك العميق لرسالة لبنان ودوره وإمكانات أبنائه.
ولعلّ هذه النقاط هي ما تميّز الائتلاف المدني اللّبناني عن الجبهات الأخرى، أي أولوية استعادة الدولة وبناء الوطن على الحسابات الانتخابية والسلطوية، وتطلعه إلى توسيع إطار التمثيل والمشاركة والتَّنسيق بين القِوى المجتمعيَّة التّغييريَّة الحيَّة بناءً على هذه الثوابت مع احترام خصوصيّة وخيارات كل مكوّن.والائتلاف استهلّ نشاطاته بزيارة البطريرك الماروني بشارة الراعي في آذار الماضي دعماً لمبادرتي الحياد الإيجابي والمؤتمر الدولي، ومن قبله نقيب المحامين ملحم خلف لتأكيد التمسّك بالتحقيق المهني والشفّاف بجريمة المرفأ وصولاً إلى كشف حقيقتها وأبعادها وخفاياها وتحقيق العدالة لكل الضحايا.
بهذا المعنى يربط الائتلاف ما بين العمل النخبوي المتخصّص وإيجاد رأي عام ضاغط من خلال ربط مسارات الفكر بدينامية الأرض، وصولاً إلى تقديم نموذج حكم بديل يعمل على استرداد الدَّولة بإعادة تكوين السُّلْطَة ضمن مسارٍ ديموقراطيّ يوصل إلى بناء لبنان الجديد، وأكثر من ذلك يعتبر الائتلاف أن الظروف القائمة، على تعاستها وبؤسها وسوداويتها، يمكن تحويلها إلى دافع حقيقي لتحويل طموحات الشعب بالتغيير إلى حقيقة.
تطلعات كبيرة لكن التحديات أكبر
بالرغم من أحقيّة وصدق وشفافيّة طروحات مجموعات الحراك، هل يكفي كلّ ما ذكر لتحقيق أهداف الثورة بإنقاذ لبنان، أو يؤمّن بالحدّ الأدنى مساراً سلمياً تغييراً لاستعادة الدولة والاستقرار؟
لا شيء يَشي بأن المعركة ستكون سهلة مع المنظومة المتحكّمة وأذرعها. وهي التي نهبت المال العام، والودائع الخاصة، وعرقلت التحقيق بجريمة إرهابية إنسانية كبرى، وأَفشلت المبادرة الفرنسية، وتنكرت لنداءات الفاتيكان، وأحبطت كل مساعي أصدقاء لبنان للحل، وحوّلت القطاعات الانتاجيةوالصحيّة والاستشفائية والحياتيّة والخدماتيّة والمشتقات النفطية لسوق سوداء كبيرة يحكمها منطق الجشع والاحتكار والابتزاز والزبائنيّة.. لا أحد يتخيل للحظة أن هذه المنظومة ستسلّم بسهولة.. بيدَ أنّ التحديات لا يجب أن تثني المؤمنين بقيامة لبنان، ورسالته،وعمقه العربي، وروابط صداقاته مع العالم عن معركة استعادة وطنهم ودولتهم.
وعليه، على الائتلاف المدني اللّبناني وبقية الجبهات والتحالفات التنبيه الشديد في مسيرة التغيير التي ينشدوها، والأهم عدم تكرار أخطاء تكتيكية وقعت فيها الثورة وباتت أوضح من الوضوح ومن الضروري عدم تكرارها، ومن أهمها:
أن المنظومة – بالتكافل والتضامن في ما بين أركانها – لن تتورّع أو تتردّد في المغامرة بالاستقرار وبكل القيم والمعايير والضوابط دفاعاً عن شبكات مصالحها المتداخلة والمتشعّبة.. ومن ضمنه كل ما قد يخطر على البال من ألاعيب ومساومات.. وجرائم.
أن التغيير وفق الآليات الديموقراطيّة لتداول السلطة شبه مستحيل في لبنان لأسباب معروفة جداً، يتصل بعضها بطبيعة الاجتماع اللبناني ومنظومات الزبائنية، وبعضها الآخر بتعقيدات خارجيّة لها تأثير في الداخل اللبناني، وتؤثر بشكل مباشر على موازين القوى وحرية العمل وقدرة المنظومة على تسخير القوانين والأجهزة والمؤسسات والدولة العميقة في خدمة مصالحها، وهذا يوصل إلى تأكيدأولوية معركة استعادة الدولة بكل مرتكزاتها، على المعركة الانتخابية وكل حساباتها، هذا إن سمحت المنظومة بإجراء الانتخابات أو أي استحقاق تستشعر أنه يحاصر نفوذها.
أن أولوية المجتمع الدولي مصالحه وانشغاله بتداعيات وباء كورونا وحسابات أخرى قد تتقاطع مع المصلحة اللبنانيّة وقد لا تتقاطع، وهذا يفترض عملاً ديبلوماسياً ليّنا لجَسر التباينات وتوحيد الرؤى والمصالح والغايات.
إن تجارب الالتفاف على طموحات الشعب وأحلامه من قبل المنظومة طريّةٌ جداً، حصل ذلك في 2005 و2015، لذلك من الملحّ إجراء عملية نقد عميقة وواعية وعلميّة لتجربة الحراك بنسخته الأخيرة منذ انطلاقتها في 17 تشرين 2019، ومن ثمَّ تفكيك الحملة المضادة التي قادتها السلطة والأحزاب والقوى المرتبطة بها لاستيعاب وتفتيت غضبة الناس.
من الضروري التحلّي بالواقعية والابتعاد عن المبالغات سواء في التخطيط أو الطروحات، ويندرج في هذا الإطار ضرورة السعي لتقديم نماذج لرجال دولة، لا متطلّعين إلى المناصب ومنتفعين وانتهازيين ومتصيدي فُرص.
أن تكون الخطة الإنقاذيّة البديلة، عاجلة ومتوسطة وبعيدة المدى، بما في ذلك متابعة ملفات الفساد المالية والاقتصادية والقضائية وغيرها بشكل عميق وعلمي ومتخصّص، وعدم الاكفاء بالنقد العام والشكوى والتظلّم.
استعادة أصدقاء وأشقاء لبنان وإقناعهم بأن تحرير الدولة في لبنان مصلحة لهم جميعاً، وتصب في خدمة الرسالة الإنسانية، وفي إطار تعزيز الأمن والسلم الإقليمي والدولي.
الإصرار على الإيجابية تجاه كل مكونات المجتمع اللبناني، والقوى المجتمعيّة الحيّة ومجموعات الثورة، والكتل الانتاجيّة المستقلّة وغيرها… فلبنان يستحق وتحدّي إنقاذ هذا البلد من منظومة التسلّط والفساد والهيمنة يستحق أيضاً.
ما سبق يؤكد أن معركة تحرير لبنان محفوفة بالمخاطر على جبهة مواجهة السلطة، فكيف الحال وغالبية الشعب موجوع، ومحبط، ومتألم، ويائس… ويواجه أزمات مالية ومعيشية واستشفائية وحياتية لم يكن يتخيلها حتى بأسوأ الكوابيس منذ بداية هذا العهد النحس… وبالتالي اللبنانيون لا يريدون تجارب تكرر شعارات تداعب آلامهم، بل يتطلعون الى تغيير يلامس تصحيح الخلل، واستعادة الأمل الذي اغتالته قوى الظلام، وفوق ذلك يريدون دولة وعيشا كريما وعدالة اجتماعية وحريات وحكم قانون.
ما عاد جائزاً القول، أمام اللبنانيين وأمام العالم، بأن البدائل غير موجودة، وما عاد جائزاً أكثر منحُ السلطة أُسباباًللاستمرار من خلال عدم لجوء الثورة إلى معالجة ثغرات أثّرت على دينامية الانتفاضة وشعلتها ومشروعها.. الرؤية موجودة، والبرنامج موجود، والمطلوب تأطيرالمكونات والإمكانات وصولاً إلى التغيير… وهنا التحدّي الحقيقي.