Site icon IMLebanon

لبنان وتحدي صناعة البديل السياسي!

 

«ما أن تبدأ حرب أهلية في بلد حتى يصبح من الصعب إيقافها؛ فهي كالحرائق الكبيرة لا تنطفئ إلا عندما تصبح الأرض رماداً». تنطبق هذه الصورة التي رسمها أمين معلوف على لبنان أكثر من أي مكانٍ آخر. كأن هناك اتفاقاً بين اللبنانيين على أن آخر حروبهم الأهلية بدأت في 13 أبريل (نيسان) 1975، ولم ينجحوا أبداً في وضع نهاية لها؛ لذا يعود بعض ضحاياها كل سنة لإحياء تاريخ بدء الحرب مع اللطم الضروري عن المآسي التي جرّتها على لبنان وأهله، والأدوار المخزية لأطرافها الذين استسهلوا أخذ البلد إلى النار!

لم تنتهِ الحرب الأهلية، بل هي تواصلت على شكل «حروب صغيرة» وتوترات، لم يكن فيها أي شيء من الصدفة، بل مبرمجة ومنسقة وهادفة. صحيح أن «حزب الله» كان أكبر المستفيدين، لكن كل أطراف تحالف ميليشيات الحرب والمال ربطوا بين تسلطهم والحفاظ على مكاسبهم، بالحفاظ على الانقسام الطائفي والاستثمار في عار مقتلة الحرب الأهلية، وما من طرفٍ اعتبر المصلحة الوطنية أولوية، فكانت إدارة الظهر للدستور والقفز فوق انتهاك السيادة والترويج لمقولة إن مسألة السلاح الميليشياوي قضية إقليمية.

لأن هذا المنطق هو الذي ساد طيلة العقود الماضية، وبالأخص بعد عام 2005، كان من المستحيل توقع مسار آخر غير الانهيار الشامل.

التعديات المبرمجة للدويلة طحنت مصالح المواطنين وحقوقهم، ولم تمس مطلقاً مكاسب أي طرف في نظام المحاصصة الطائفي الفاسد. فمن إقفال وسط بيروت وتغوّل الدويلة، إلى احتلال «حزب الله» العاصمة في 7 مايو (أيار) 2008، و«اتفاق الدوحة» تكرست البدع في الحكم تحت مسميات، أبرزها «الثلث المعطل» لتغطية الارتكابات والانحراف عن المسار الدستوري. وجاءت ظاهرة القمصان السود لتحوّل الأكثرية إلى أقلية وتفرض حكومة اللون الواحد.

في حين جريمة تلة سجد التي أدت إلى مقتل الطيار سامر حنا بعدما أُرغم على الهبوط بمروحيته، رسمت حدود المسموح والممنوع بالنسبة للجيش؛ حتى لا يتكرر تجاوز «الخط الأحمر» كما في حرب نهر البارد ضد تنظيم «فتح الإسلام» الإرهابي!

الفراغ الرئاسي طيلة 30 شهراً حتى أملى «حزب الله» شروطه، بانتخاب مرشحه العماد عون رئيساً، منح «الحزب» الجائزة الكبرى: كل القرار اللبناني مقابل حصص في كراسي الحكم. وأدت الصفقة إلى تجويف صلاحيات رئاسة مجلس الوزراء، التي انتقلت من خلال الممارسة إلى رئاسة الجمهورية خلافاً للدستور. بعيداً عن النص تغلغلت الدويلة في مفاصل القرار الحكومي، وأمسكت وزارات مثل الصناعة والزراعة والصحة التي ستدعم اقتصادها الموازي، ووضع «حزب الله» يده على الجزء الأكبر من «الكعكة»!

عزل لبنان و«ممانعته» كانا الوجه الآخر للسياسات التي سبقت «التسوية الرئاسية» وتلتها؛ ما فاقم العجز، فاتسعت سرقة الودائع، لتغطية تمويل الدويلة كما أطراف نظام المحاصصة وميليشيات النظام السوري بلا رادع! ولم يستوقف أي طرف تحول البلد إلى منصة صواريخ ضد المنطقة، وتتويج ذلك بتشويه صورة لبنان، عندما بات منصة لـ«نترات الرمان» وكل السموم، ما سيرتب أثماناً فوق طاقة أهله!

أمام هذه الانهيارات سادت حالة من اللامسؤولية؛ حالة انتظارية، انطلقت من قصور يزعم أصحابه أن اللاعبين الخارجيين لن يسمحوا بتلاشي لبنان المعرّض لارتطام كبير.

كان الممسك بالقرار ماضياً في مخطط حجز البلد بانتظار ما ستؤدي إليه محادثات فيينا بشأن الاتفاق النووي، في حين كل الآخرين انخرطوا في حرب ضروس على الحصص الحكومية. ما من أحد التفت إلى الناس والبؤس الذي يحيط بهم، إلى تفجير المرفأ وضرب طريقة عيش اللبنانيين، بينما ساد التهريب «المقونن»! ولم يسجل أن أياً من مراكز القرار توقف أمام مستجدات تشهدها المنطقة، أي بدء حوارات غير متوقعة بين خصوم الأمس.

لم تنفع تحذيرات الخارج ولا الحملة الدبلوماسية العربية والدولية تجاه لبنان، ولم يتوقف أي فريق عند احتياجات الداخل، حتى أن مسألة بأهمية ترسيم الحدود البحرية الجنوبية لحماية الثروة الموعودة عُلِّقت إلى أجلٍ غير مسمى، بعدما تعثر مشروع إدخالها في بازار مقايضة على الحقوق مقابل رفع العقوبات عن النائب باسيل ليضمن له عون موقعاً في بلد يتم تفكيكه! وبدا من العبث مناشدة المافيا السياسية المتحكمة أن تعير المصلحة الوطنية الاهتمام! ليوحد اليأس من الطبقة السياسية موقف أصدقاء شعب لبنان.

بعد 9 أشهر على المبادرة الفرنسية وما رافقها من تسويف وتنكر لتعهدات معلنة، حمل الوزير الفرنسي لودريان عصا العقوبات بوجه معطلي تأليف الحكومة معرقلي المبادرة الفرنسية الفاسدين.

تجاوز لودريان التعويم الفرنسي للطبقة السياسية وحمّلها مسؤولية التفكك والانهيارات وجريمة تفجير المرفأ بإعلانه: «أنا هنا لأقول بحزم إن فرنسا تجدد دعمها للشعب اللبناني، هؤلاء أردت زيارتهم ودعمهم والعمل معهم من أجل مستقبل أفضل للبنان». لا إشارة إلى الأسماء المستهدفة، بل الكل متهم، لتظهر حالة تبنٍ فرنسي لشعار «كلن يعني كلن»، والنتيجة بالتالي أنه ما من جهة خارجية جاهزة للتعاطي مع طبقة سياسية مارقة!

هم في مركب واحد يقوده «حزب الله» الذي اختطف الدولة وحوّل البلد إلى غابة يتحكم فيها كواسر، فحرم المواطن من القدرة على الحصول على الرغيف وحبة الدواء، والارتطام الكبير بات محتماً، ولبنان اليوم رصيف هجرة وأرض بؤس ومجرد جغرافيا وضاحية فقيرة لإسرائيل المزدهرة. وتمددت الأخطار بعد الإفلاس المالي والسياسي إلى آخر ركيزتين للدولة؛ القضاء والجيش، وتبدو الساحة خالية أمام الأطماع الخارجية وبالتحديد نظام الملالي صاحب مشروع إيران الكبرى!

إنها لحظة العودة إلى «17 تشرين» ودروسها. حركة جماهرية سلمية عكست كل تركيبة البلد الطائفية وجهاته، أصابت الطبقة السياسية بشروخٍ عميقة، عزلتها واسترجعت الشرعية منها وظهّرت الإمكانية لبلورة البديل السياسي؛ ما أجبر «حزب الله» على التصدي لمهمة الدفاع عن نظام المحاصصة ومكوناته. بدا جلياً التمسك بالسلطة بما هي مكاسب للمنظومة المتصدعة، وبما هي جزء من أجندة الدويلة لمد سلطة طهران حتى المتوسط، وهذا العنصر – المفتاح تعامت عنه باريس. يعرف الجانب الفرنسي، أن الإفلاس وقع منذ ما قبل «سيدر»، وأنهم كانوا يسرقون الودائع للتمويل الذاتي وتمويل الدويلة وميليشيات نظام الأسد، ووقف الكارثة كان يتطلب حكومة مستقلة عن منظومة جُلّ أولوياتها صفقاتها ومكاسبها وتغطية ارتكاباتها!

البديل عن ذلك بيد اللبنانيين الذين بوسعهم كسر هذا المنحى الجهنمي، بالذهاب إلى الناس ومشاركتهم بناء وضع سياسي صلب، يشكل رافعة الجبهة السياسية المعارضة، التي تبقي سيف الاحتجاج الشعبي مرفوعاً فيكون متاحاً في المفاصل الأساسية استعادة زمن الساحات، وبلورة ميزان القوى الحقيقي، وهو حجر الرحى في معركة استعادة الدولة المخطوفة بالفساد والسلاح والانتقال إلى ورشة الإصلاح والإنقاذ!