لا يكاد يمرّ يوم في لبنان من دون الأخبار التي تتوالى عن فقدان المواد الغذائية والاستهلاكية وارتفاع أسعارها، إن وجدت في الأسواق، من الخبز إلى الدواء والمحروقات وغيرها، لكن السؤال الذي بات يطرح أينما كان اليوم هو: لماذا لا يزال الشعب اللبناني ساكتاً على هذا الوضع الذي يتفاقم من دون سقف في غياب أي تحركات جدية وفعلية على الأرض بوجه كل ما يحصل، وهو الذي كان قد انتفض في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 رفضا للتعريفة على خدمة الواتساب، بينما ما يدفعه اليوم، ماديا ومعنويا، يفوق أضعاف ما كان سيدفعه لهذه الخدمة؟
وانشغال اللبنانيين في السباق على تأمين لقمة عيشهم يختصر هذا الواقع، وقد يكون كافيا لفهم سبب غياب التحركات الشعبية بعدما باتت لقمة العيش هي الهدف الذي يسعى له كل مواطن ورب عائلة رغم كل العذاب الذي يتكبده في هذه المهمة التي باتت «شبه مستحيلة»، وهو ما يتوافق عليه كل من أستاذ السياسات والتخطيط في الجامعة الأميركية في بيروت ناصر ياسين والأستاذة في علم الاجتماع منى فياض، معتبرين أن همّ اللبناني الذي بات يرتكز على تأمين خبزه اليومي، بات يطغى على أي أولوية أخرى، مع بعض الاختلاف فيما بينهما، لجهة اعتبار ياسين أن هذا الوقع سيعيد الناس إلى الشارع إنما بنسبة أقل من تلك التي شهدتها الشوارع عام 2019، فيما تعتبر فياض أن كل ما يحصل سيؤدي إلى انفجار قد يتجسد في عنف مجتمعي.
ويتحدث ياسين في تصريح لـ«الشرق الأوسط» عن أسباب عدة حالت دون عودة التحركات الشعبية إلى الشارع، مشيرا بداية إلى انتشار وباء «كورونا» إلى جانب أسباب رئيسية أخرى مرتبطة بشعور اللبنانيين بفقدان الأمل بعدما لم تنجح انتفاضة الخريف في التوصل إلى نتيجة فيما لم تعمل مجموعات الانتفاضة في عدد منها إلى تحديث أدوات الاحتجاج. ويلفت أيضا إلى الشق النفسي المرتبط بهذا الواقع، حيث ينشغل الناس الذين يعيشون تحت الضغط على كل الصعد بأمورهم الحياتية وتأمين حاجاتهم الأولية من الدواء والبنزين وحليب الأطفال والكهرباء فيما يلجأ البعض الآخر إلى البحث لتأمين مستقبله عبر الهجرة أو الحصول على عمل وغيره، ورغم ذلك، يقول ياسين: «هذا لا يعني أنه لن يحصل تحركات احتجاجية إنما لن تكون على غرار تلك التي رأيناها في خريف عام 2019».
من جهتها، تقول فياض لـ«الشرق الأوسط» نحن موجودون في سجن وليس في بلد طبيعي والسلطة تجرّب بالشعب كل أنواع التعذيب بحيث بات يشحذ لقمة العيش لأبنائه ليبقى السؤال هل ينزل رب الأسرة إلى الشارع ليتظاهر أم أنه يفضل البحث لتأمين لقمة العيش لأبنائه؟، مضيفة: «بالتالي باتت سياسة السلطة اليوم إلهاء الناس بلقمة عيشها في سياسة تذكرنا بسياسة نظام الرئيس السوري السابق حافظ الأسد مع شعبه».
من هنا ترى فياض أن الشعب اللبناني أصبح كالذي تعرّض للتخدير نتيجة العذاب المتراكم والأزمات التي يعيشها على جبهات عدّة وهذا نتيجة طبيعية لهذا الواقع الذي تتطلب مواجهته المقاومة بكامل القدرات ورفض الاستسلام»، معتبرة أن الشعب اللبناني وإن كان اليوم مخدرا لكنه لن يبقى كذلك طويلا وهو في النهاية سينتفض ولن يستسلم وقد نصل إلى مرحلة الانفجار بأشكال متعددة قد يكون عبر عنف مجتمعي أو أي صيغة أخرى». لذا تشدد فياض على أنه «حان الوقت للمقاومة السلمية الفعلية تحت شعار واحد هو مقاومة هذا الاستبداد الجديد».
ولا يختلف رأي الناشط السياسي إبراهيم منيمنة الذي يقرّ بأن انتفاضة 2019 فشلت في تحقيق التغيير وبالتالي بات هناك حالة من فقدان الأمل في أوساط اللبنانيين المنشغلين بهموم تأمين متطلباتهم اليومية. ويقول منمينة لـ«الشرق الأوسط»: «هناك حالة إحباط وعدم ثقة بأننا قادرون على التغيير بسبب فشل الانتفاضة الشعبية بتحقيق تغيير سياسي وتغيير موازين القوى وبعدما باتت التحركات في الشارع تقمع بسهولة ولا تؤدي إلى نتيجة».
ويلفت منيمنة أيضا إلى سبب آخر، إضافة إلى انشغال اللبنانيين بالسباق لتأمين مقومات العيش من الخبز والدوار والحليب، هو عدم القدرة على الاستثمار السياسي لأي تحرك، في غياب القيادة أو جهة معينة تدعو لهذه التحركات وتدعو لها ومن ثم قيادة التغيير في السلطة».
مع العلم أنه يسجّل في الأيام الأخيرة تحركات شعبية خجولة على الأرض في بعض المناطق، حيث يتم إقفال طرقات وإحراق إطارات رفضا لتردي الأوضاع المعيشية، إنما تبقى محدودة في غياب أي تنظيم ودعوات واسعة للمشاركة، كما سُجل أيضا إضراب سلمي دعا له الاتحاد العمالي العام الأسبوع الماضي شاركت فيه قطاعات مختلفة في موازاة المواقف المستنكرة لكل ما يحصل.
وفي السياق نفسه، عاد وحدد أمس الاتحاد العمالي العام يوم الخميس المقبل، يوم إضراب وطني نقابي وعمالي وشعبي على كافة الأراضي اللبنانية استكمالا للضغط تحت شعار الإسراع وعدم التلكؤ في تأليف حكومة إنقاذ وطني وإسقاط الذرائع الواهية والحسابات الحزبية والسياسية في حين تغرق البلاد كل يوم في مشكلة ومأساة جديدة، داعيا كافة فئات الشعب اللبناني للمشاركة في هذا التحرك السلمي، ولفت إلى أنه يتم وضع جدول أعمال بتحركات تصعيدية على المستوى الوطني».