Site icon IMLebanon

هذا ما فعلوه لكي لا ننتفض!

 

يعيش اللبناني ممارسات فردية لها طابع جنوني لا تعكس واقع الذل الذي يعيشه. بسيكولوجيا اللبناني تشير إلى أنّه يقاوم الذلّ بممارسات ضد الواقع، وكأنّ شيئاً لم يكن. فيقصد المطاعم ويقوم بمشاريع سياحية لمقاومة حالة الذل. وهي شكل من أشكال المقاومة الفردية، فيما المطلوب جهاز منظّم واع ومثقّف يعرف تاريخ لبنان وبسيكولوجية المواطن فيه ليحوّل هذا الرفض الفردي رفضاً جماعياً». لكن السؤال المطروح: هل هي «فشة خلق» أم مرض نفسي؟ لماذا لا ينتفض اللبناني ويثور على رغم إصرار المنظومة الحاكمة على إذلاله؟

الأستاذ أنطون مسرّة، الباحث في علم الاجتماع، يشرح لـ«الجمهورية»: «حالتنا في لبنان شبيهة بحالة النازية التي كانت تضم في صفوفها مفكرين وشباباً يجهلون ما يحدث خلف هذا التيار الشعبوي، لكنهم استقيظوا لاحقاً. وفي الحالة اللبنانية هناك ظاهرة شعبوية شبيهة بالحالة الألمانية. وَهْم استقطب الناس، وخصوصاً منذ العام 2016، ويدعى في علم النفس العيادي السوسيوباتية sociopathy. وهي حالة نرجسية مرضية، لدى اشخاص عاجزين إلّا في الانغلاق على الذات، وعاجزين عن التفكير في الغير وتحمّل المسؤولية. وهذه النرجسية تعطي نوعاً من ذكاء شيطاني للتلاعب بالعقول، وهذا ما يسري على بعض أفرقاء السلطة».

 

هذه الحالة المرضية إن كانت في صلب نفوس رجالات السلطة السياسية في لبنان، وتستغلها لتحقيق صيرورتها، هي تعمل وفق ما عملت بموجبه القوى التي احتلت لبنان، فأخضعت الناس على أساس نفسي تربوي وثقافي، لأنّ لبنان لا يمكن إخضاعه على طريقة صدام حسين وستالين، فجرى اللعب بحسب علم النفس على بعض الظواهر الخطيرة، ومنها فرض مصطلحات ومفاهيم مغايرة سادت في الشؤون اليومية، مثل: «بيناتنا. ما تحمل السلّم بالعرض». المسايرة، والتموضع، على مسافة واحدة من الجميع. عبارات غيّرت على مدى سنوات في ثقافة المواطنين واستتبعت الناس بوظائف وامتيازات».

 

و«هناك ظاهرة أخرى، يقول مسرّة، وهي التكيّف. وهو أمر بالغ الخطورة. ويُظهر عدم الصلابة لدى المواطن اللبناني. والتكيّف خطير عندما يمسّ بأمور أساسية كحقوق الانسان اليومية. وهذا يعود إلى عدم النضج السياسي، الذي كان بارزاً في انتفاضة 17 تشرين 2019 خلافاً لانتفاضة 14 آذار 2005. واليوم هناك مخادعة وتلاعب بالعقول، وهناك مثقفون بلا خبرة يطرّزون ما هو متداول في السوق. وحالة المخادعة هذه تدعو إلى طرح سؤال كبير، متى نستيقظ؟ وهنا المطلوب فِعل من القوى الحية في المجتمع. والمجاهرة بالحقيقة وتسمية الأسماء بأسمائها والخروج من التموضعات»، مشدداً في الوقت نفسه على «الأثر التربوي، وضرورة تطبيق خطة النهوض التربوي التي تم تفشيلها».

 

شكّل تاريخ 17 تشرين 2019 عنوان أمل وبارقة إيمان ومشروعاً لوطن جديد، قوامه الشباب الحرّ غير المرتهن إلّا لمشاريع وطنية وأجندات لبنانية صافية، لكن الأخطاء التقليدية أحبطت الانتفاضة، وحوّلتها منصة لمشاريع سلطوية للبعض. وسهّلت للأجهزة والميليشيات عملية خرقها، فلم تنتج قيادة منظمة موحدة، ولا هيكلية تحمل رؤية ومشروعاً سياسياً ووطنياً، فرحلت، ومعها رحل حلم كثير ممّن آمنوا بها.

 

اليوم، عدنا لنرى تحركات في الشارع، ولو خجولة. وفيما يراقب المحللون واللبنانيون هذه اليقظة المفاجئة، يرى كثير من المحللين وأساتذة السياسة والاجتماع أنّ هناك عملاً ممنهجاً للمنظومة الحاكمة لاستخدام كل أدوات القمع النفسي في حق اللبنانيين لمنعهم من أن ينتفضوا مجدداً، فتسهل استمرارهم في السلطة إلى أمد طويل.

 

أدوات القمع والاخضاع

 

أولاً، الذلّ:

 

يقول الباحث في علم الاجتماع الدكتور ملحم شاوول لـ«الجمهورية» إنّ هناك مفهوماً سوسيولوجياً مهماً يصنّف «الذلّ» كأداة من أدوات السيطرة على الناس، فسياسة القمع لا تكون فقط بأدواتها الكلاسيكية، (الشرطة، القضاء، السجن). ومن يَعش حالة الذلّ يتركز همّه على سبل الخروج من هذه الحالة، عبر تأمين مقومات العيش والبقاء، كالخبز والدواء والبنزين وغيره، ويتوقف العقل عن التفكير في مسائل كتنظيم الانتفاضات والثورات. فقد خلقت الطبقة السياسية إنساناً مبرمجاً على عيش حالة الذلّ للسيطرة عليه».

 

ثانياً، غياب القيادة:

 

وفيما يسود الجدل في أهمية وجود قائد للانتفاضة من عدمه، على غرار ما حصل في العالم العربي، لا بدّ من السؤال هنا، ماذا حققت الثورات العربية؟ وهل حققت مبتغاها؟

 

يؤكد مسرّة أن «الثورات في كل المجتمعات العربية لم تنجح والانتقال الديموقراطي ما زال متعثراً». وينبّه إلى أن «لا احد من المفكرين طرح المعطى الثقافي لمتابعة الثورات، لأنّ كل الثورات في العالم ارتبط نجاحها بعمل ثقافي تربوي وهذا لم يحصل في الدول العربية ولا في لبنان».

 

وفي السياق، يقول شاوول: «يحتاج المجتمع لكي ينتفض أو يثور الى قيادة والى من ينظّم حالة الغضب وحالة الرفض ويبلور هذا التنظيم بمشروع سياسي واضح، وهنا لا نتحدث عن قائد واحد يدير المجتمع بكامله، لأنّ النظام الطائفي في لبنان، يمنع وجود مثل هذا القائد، بل يمكن ان يكون هناك وجود لمجموعة قيادية، لديها وضوح الرؤية وتمتلك الأجوبة لأزمة البلد السياسية».

 

ثالثاً، العنف»

 

«إنّ وجود قرار لدى المنتفضين في لبنان بعدم اللجوء إلى العنف، أمر تراهن عليه ما تسمّى «المنظومة الحاكمة» وقد نجحت به وتستفيد منه، يقول شاوول، لسبب بسيط أنه طالما لم تصل هذه المنظومة إلى حالة تشعر فيها أنها مهدّدة، فإنّ كل الآفاق ضمن موازين القوى تبقى مفتوحة، وهذا لن يخيف هذه المنظومة لأنها تعتبر أنها الأقوى عسكرياً وأمنياً، مع العلم أنّ تجربة العنف لا تعني دائماً نجاح الانتفاضة أو الثورة وثمنها سيكون باهظاً وتطرح مسؤوليات تاريخية على من يقوم بها».

 

أفق الحلّ

 

هذه العوامل كلّها تجعل المواطن في لبنان مغلوباً على أمره، وتعطي الطمأنينة والراحة للمنظومة الحاكمة. فيما المواجهة تغيب عنها عوامل التنظيم والقيادة التي تمتلك الرؤية والتي تحدّد أساليب هذه المواجهة. لذلك، يعتبر مسرّة «أن الناس لا تقوم او تستيقظ إلا عندما تصل إلى أقصى درجات الانهيار». بينا يقول شاوول: «إنّ تنظيم أطر قيادية ووضع هيكلية تنظيمية للانتفاضة مسؤولية كبيرة، وخصوصاً على من يصنّفون أنفسهم ثواراً، وقسم كبير منهم بات «مؤطّراً» في جبهات. وبالتالي، مسؤولية هؤلاء الشباب بلورة رؤية تنطلق من مبادرة عدد من الأفراد، يكونون مجموعة قيادية تعمل على توسيع نطاق تجمعها عبر طرح برنامجها الوطني، ولو أنها ستكون معرّضة للقمع والملاحقة والضغوط، لكن هذا أمر ضروري يتطلّبه الواقع».

 

يبقى عامل تحريك الشارع اليوم موضع مراقبة، وما اذا كان سيتوسّع، وما اذا سيكون مرتبطاً بتَسارع التطورات الاقليمية، وبنهضة جديدة قررت أن تقول «لا» لمنظومة المافيا والميليشيا التي تحكم البلاد.