IMLebanon

عرّاب لبنان الجديد

 

 

صرخة الناس المتأججة في الصدور، تبحث عن طانيوس شاهين يستطيع أن يقودهم نحو لبنان الجديد، لكن خوفهم أن يسقطوا معه في ما سقطت فيه يومها ثورة الفلاحين ضدّ الإقطاع العائلي، الذي نجح في كسروان بأن يكون صراعاً طبقياً، وفشل في الشوف ليصبح من اكبر الصراعات الطائفية، لأنّ الإقطاع هناك كان بأكثرية درزية وكان فلاّحوه موارنة، ما أنقذ الاقطاعيين «كلن يعني كلن»، وأعادوا إنتاج أنفسهم. وهو اليوم يتشابه في إقطاع شيعي جديد متحالف مع أحزاب.

 

صراخ اللبنانيين اليوم يتيم، فلا طانيوس شاهين له لتطويعه ترغيباً وترهيباً، وربما هنا قوته لأنّه غير نمطي، ولا قائد للثورة، فهي مزاجية عشواء ستمضي حتماً وعبر موجات متتابعة بتصديع الهيكل، ولن تقف إلّا بعد تحطيم الأصنام وأشباه الآلهة، ومن رحم ما يراه البعض فوضى الانهيار سوف يولد وعلى مراحل لبنان الجديد، حيث لا مكان فيه لمن فجّر بيروت بالأمونيوم وذبح اطفالها، ولا لمن نهب مدخّرات الناس وحطم اقتصادهم، ولا مكان فيه لمن يحمل في عنقه خطايا وضحايا الحروب العبثية من 1975 إلى اليوم.

 

ينتظرون أمراء الدم «كلن يعني كلن»، طائف جديد ينقذهم، نعم في 1990 انتهت مرحلة من حروبهم بالوكالة مع نهاية الحرب الباردة، ما أتاح التوصل لاتفاق الطائف، كجزء من سلّة تمهيد مؤتمر السلام في مدريد في تشرين 1991، والذي تمّ بعد توريط واخراج العراق من الكويت في ايار1991. ولكن، نحن اليوم أمام لحظة بداية حرب باردة جديدة، رياحها لن تأتي بما تشتهيه سفن زعماء الموت في لبنان، فلن يكون هناك من يشفع لهم أمام الانهيار الذي سيكتب آخر صفحاتهم جميعاً دون تمييز، ولن تنفعهم محمياتهم مهما اشتدّ العصب الطائفي. فالشباب خلع آلهة آبائهم، والاقليم سقط على رأس الجميع. فلا يكفي أن تسيطر، بل ان تكون لك القدرة أن تحكم بالعدل وتؤمّن الرخاء، فلا استدامة دون ازدهار.

 

أما في الساحة الدولية، فإنّ إدارة الرئيس بايدن لا يعنيها إلّا استعادة قوة الاقتصاد الأميركي وضبط ايقاع الصين، بما يتناسب مع المصالح الأميركية. لذا، لا مكان للبنان في اروقة البيت الابيض الّا من باب رؤية الفاتيكان للبنان الرسالة المحايد في مشرق الاخوة الانسانية المأزومة، والتي تمّ التشديد عليها في اجتماع الطوائف المسيحية المشرقية كافة تحت قبة الكثلكة. فحياد لبنان ليس بجديد. فمن مجلس إدارة متصرفية جبل لبنان الى وثيقة إنشاء الجامعة العربية إلى 62 بياناً وزارياً من حكومات الاستقلال لليوم، فهو لا يُحارِب ولا يُحَارَب، بل واحة رجاء لتناغم الحضارات. لذا، لم يكن صدفة لقاء روما بين وزراء خارجية الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية، على مسافة يوم من كلمة البابا فرنسيس، والذي سعت له الديبلوماسية الفرنسية بكل طاقتها منذ وصول الإدارة الجديدة الى البيت الابيض. ففرنسا هي الأكثر تضرّراً من العقوبات على إيران، لخسارتها عقوداً ضخمة في النفط والنقل والبنى التحتية. لهذا تجهد في الدفاع عن مصالح طهران الحيوية من باب رعاية حياد لبنان الذي رسمته سنة 1920، وخصوصاً مع سقوط ورقة سلاح «حزب الله» بعد جنوح الخليج العربي إلى مغامرة الإندماج مع إسرائيل. فعودة طهران إلى النادي الدولي الغربي، التي أصبحت على قاب قوسين، ليست مصلحة فرنسية وحسب بل أميركية أيضاً، في استراتيجية ردع الصين، وخصوصاً بعد التهويل الإيراني بورقة تفاهم اقتصادية وعسكرية مع الصين، في مناورة رفع سقف التفاوض. والسعودية الخارجة من اليمن بضمانات أميركية تعيدها الى لبنان في حلّة جديدة، من بوابة تمويل حياد لبنان والدعم الاقتصادي للقيادات الجديدة الشابة، لبناء لبنان (20 – 30) بعد الانهيار الشامل. وكانت اول طلائع التغيير، الانتصار الساحق في نقابة المهندسين.

 

وزير الخارجية الفرنسي لودريان او «مترنيخ الجديد» اقنع الجميع، ومن بينهم ايران والسعودية، على حياد لبنان، ووزير الخارجية الاميركي انتوني بلينكن، سيُلزم إسرائيل عبر بوابة ترسيم الحدود البحرية، بروتوكول الحياد. لهذا في الداخل «كلن يعني كلن»، أيتام دون رعاية دولية او إقليمية، يعيشون حالة إنكار وسكرة الآخرة، ويجاهدون للبقاء على طاولة بيع الوطن، لربما تبدّلت بسحر ساحر خطوط العرض والطول، فيصبح لبنان جغرافياً على حدود شبه جزيرة القرم، فتهبّ الأوليغارشية الروسية التي يشاركونها في فلسفة السلطة الى نجدتهم، او يصبح مثيل إقليم خوزستان على بحر العرب هذه المرة على شط المتوسط، فتحلّ أزمة البنزين والدواء والغذاء على الطريقة الإيرانية. فمن ساواك بنفسه ما ظلمك، متجاهلين انّ التاريخ تُكتب صفحاته الجغرافية، لهذا تتشابه فصوله. وما زالوا ايضاً يحلمون أن تهبّ رياح الودّ بين طهران والرياض، غافلين أو منكرين أنّ الكل انكفأ لانشغاله داخلياً في ازماته وخصوصاً أمام التغييرات الاجتماعية التي تفرضها أجيال شابة بلغت نسبتهم 38% من السكان في السعودية و 29% في إيران، تهدّد بثورات ملونة ترسم كل شيء من جديد، ليس في البلدين فحسب بل في المنطقة.

 

وليم بيرنز في كتابه The back channel فكّك شيفرة المصالح الإيرانية والخليجية، كاشفاً مكان الضعف والقوة، مستشرفاً حركات التغيير الشبابية التي سوف تُشعل ثورات خضراء وحمراء وبرتقالية في كل عواصم المنطقة، ان لم تنفتح على قبول التعددية بكل اشكالها الفكرية والروحية والاقتصادية والسياسية. فلقد دخلنا الى عالم الانسان الفرد. من هنا لا خلاص ابداً لأي من اللاعبين الإقليميين، وإن توجّهوا شرقاً او غرباً فالعالم تغيّر، والكل سوف يواجه صرخات عطشى للحرية الفردية والمساواة والعدالة الاجتماعية والعيش في الازدهار، وخصوصاً أنّهم يحملون إرثاً من القمع الفكري والديني والاقتصادي والسياسي، جعلهم عاجزين عن السير بقدرتهم الذاتية نحو بعضهم البعض. فكل دول الإقليم، رغم قوتها الظاهرة، تعاني من التشتت، وكأننا أمام تكرار مشهد تشتت السلطنة العثمانية أمام ضربات محمد علي باشا المصري. فاذا كان هذا حال جبابرة الإقليم، فما عسانا نقول عن حال وكلائهم المندثرين في لبنان.

 

لهذا، لا يوجد اليوم مخلص تقليدي لا دولي ولا إقليمي، ليرعى اي طاولة شبيهة بالطائف او بالدوحة، وهذا ما اتُفق عليه في روما، فلا غالب ولا مغلوب ليتاح امام الناس، بحماية الجيش دون شراكة، أن يسيروا في خارطة طريق واحدة للنهوض.

 

البداية لا خيار فيها، وهي في إعادة تشكيل السلطة من القوى الشبابية الصاعدة، حيث للمرأة الريادة والقيادة، بعد سقوط النموذج الأبوي المقدس، وذلك عبر الانتخابات النيابية على إيقاع قرقعة الانهيار وحطام الزعماء وصراخ الجياع، الذي سيُسقط الباستيل اللبناني عبر إسقاطهم «كلن يعني كلن» عن عرش الطائفية الى دولة الانسان الفرد، يليها فوراً كل ما يلزم للجم الانهيار النقدي، عبر اعتماد مجلس النقد والشروع بالإصلاحات الهيكلية بالشراكة مع صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، ومنها خفض حجم الدولة وتوزيع الخسائر على أرباب النظام السياسي والاقتصادي الذين حكموا من الـ1990 لليوم، وحجز ثرواتهم. هذا في الاقتصاد، وفي السياسة لا تنتظم الحياة السياسية إلّا بوحدة واحادية مؤسسات الحكم، فلا رديف لها بعد اليوم، إن في القضاء أو التشريع أو في السلطة التنفيذية المدنية والعسكرية. فلا مكان إلّا لجيش لبناني واحد يحمي الوطن.

 

وفي الدستور، تطبيق دستور الطائف من اللامركزية الى مجلس الشيوخ. فلا يمكن الذهاب الى اي صيغة دستورية جديدة قبل إعادة الاستقرار بحدّه الأدنى. فلا مكان الآن الّا لإنقاذ الناس من الجوع والموت. ولا سيولة سياسية لصرف أي ورقة دستورية.