المنظومة نجحت بإعادة إنتاج نفسها والمجتمع الدولي تواطأ.. لكن الثورة لم تفشل
لأسباب كثيرة، لم تنل الحكومة الوليدة ما كان يفترض أن تُستقبل به من ردود فعل قياساً على المخاض العسير الذي سبقها، وعلى فترة الفراغ القاتلة، وعلى الانهيار الذي أصاب البلد بسبب غياب سلطة مسؤولة.. بل على العكس من ذلك، بدت الحكومة بُعيد الإعلان عنها، حائرة، ضائعةَ الهويّة والهدف؛ لا هي حكومة إنقاذ من اختصاصيين وبرنامج عمل استثنائيّ تُباشر عملية إصلاح وحوار مع صندوق النقد والأسرتين العربية والدولية، ولا هي حكومة مستقلّين تحضّر لانتخابات نيابية وترسل إشارات إيجابية للعالم تمهّد لانتقال لبنان إلى مرحلة التغيير وفكّ العزلة وتحرير الدولة.. فوق ذلك جاءت تصريحات بعض الوزراء، والسير الذاتية لبعضهم الآخر، لتعكس خفّة وتهريجاً وتسلقاً وفساداً لا تليق بإنسانٍ عاقل، فضلاً عمن يفترض به إدارة الشأن العام وحلّ أزمة كارثية!
هل كانت هذه الحكومة تستحق كل هذا الانتظار.. الافتراض أن حكومة خرجت بعد 13 شهراً من التعطيل والكيدية والضغوط الخارجية والأزمات الخانقة.. أن ينعكس، مجرد الإعلان عن ولادتها، انفراجاً ولو نسبياً في الأزمة، لكن ذلك لم يحصل، واقتصر الترحيب على أطرافٍ وجهاتٍ لها حساباتها الخاصة، فيما الدول القادرة على مساعدة لبنان فعلياً التزمت الصمت، لإدراكها أن ما جرى ويجري استمرار لعملية المحاصصة ونهج تقاسم الجبنة، ومجرّد تسوية فرنسية – إيرانية لمصالح وغايات لا دخل للبنان وشعبه بها.
صمتُ الدول القادرة على مساعدة لبنان فعلياً، يعكس أن ما جرى ويجري هو استمرار لنهج تقاسم الجبنة، ومجرّد تسوية فرنسية – إيرانية لمصالح وغايات لا دخل لبلاد الأرز بها
هكذا بدت الحكومة منذ لحظة ولادتها، دونَ مواربة، حكومةَ محاصصة مكوّنة من أزلامِ الأزلام؛ للمنظومة حصتها ، وللصهر حصته، ولكارتيل المال حصته، حتى لبشّار الأسد حصته، والجميع بإمرة الحزب المهمين المستحوذ على حصته الخاصة طبعاً، وبدا أيضاً أن المعطى الخارجي أكثر منه الديناميات الداخلية أو الأزمة المستفحلة هو من أسهم بولادتها من خاصرةِ الوقتِ الضائع، فالانكفاء الأميركي، والتغوّل الإيراني، والهُيام الفرنسي القديم ببلاد الفرس (سجعان قزي، النهار 9 أيلول 2021)، والاغتباط السوري بكسر «قيصر» من باب خطوط الغاز والكهرباء.. كلها عوامل كانت حاضرة وبقوة.
الثورة لم تفشل
وفي الطريق إلى البيان الوزاري والثقة النيابيّة التي تبدو مضمونة، لا تملكُ هذه الحكومة فترة زمنية تخولها طرح رؤية إنقاذية، أولاً لأن البلدُ مأزومٌ ويحتاج فريقاً وزارياً متناغماً وقادراً على محاورة العالم وتأمين الإنقاذ. الإنقاذ الحقيقي وليس (طق الحنك) على طريقة وزير الحفاضات السمج، وهذا لم يحصل، وثانياً بفعل اقتراب الانتخابات النيابية، وثالثاً قرب انتهاء العهد النحس، ما يجعل منها حكومةً انتقاليّة، لكن ذلك لا يلغي من تسجيل بعض الملاحظات: أولاً: أثبتت المنظومة السلطوية أنها متمرّسةٌ في المحاصصة، وأن الدستور عندها ليس سوى وجهة نظر، أما آلام الشعب فمجرّد أداة ضغط، ووسيلةً لإعادةِ إنتاجِ الذات. وعليه، لا أمل ولا ثقة بحكومة منبثقة عن الأكثرية الحالية، أكثرية السلاح والفساد، والناتجة عن قانون انتخاباتٍ مسخ.
ثانياً: أن المجتمع الدولي ينظر بعين مصالحه حصراً، ولا يقيم وزناً لأوجاع الشعوب ومآسيها. هل تتوقع باريس (وواشنطن تالياً) أن تعزيز النفوذ الإيراني في لبنان سينتشل هذا البلد مما هو فيه، أو أن رميه في ثقب الهيمنة الإيرانية الأسود يخدم الاستقرار الداخلي والإقليمي؟!! هل تعتقد باريس (وواشنطن تالياً) أن دعم الخيار الإيراني سيدفع بالدول العربية، القادرة فعلياً ومن دون تمثيل وتكاذب على مساعدة لبنان، للعودة إلى بلاد الأرز؟! وعليه، لا أمل ولا ثقة بحكومة هي نتاج تفاهم فرنسي – إيراني على ما تبقى من لبنان، شعباً ورسالة ودوراً.
ثالثاً: أن الثورة أخطأت، لكنها لم تفشل، فهي وإن سبق أن عَرّت إجرام وفساد المنظومة، لكنها بقيت في مربع الارباك والتردّد والتشتت، الأمر الذي سمح لطبقة سياسية تحترفُ التخريب استيعابَ الصدمة ومن ثمّ تفتيتها، وقد كان مطلوباً منذ استقالة حكومة سعد الحريري في تشرين الأول 2019 مواصلة الضغط باتجاه المواقع الدستورية الأخرى.
نعم، إن ولادة حكومةِ محاصصةٍ تقليدية (من تحالف السلاح والفساد) بتقاطعات خارجية، فرنسية – إيرانية وأميركية – سوريّة، يؤكد عدم شرعية المنظومة، وهذا أساسُ خطابِ الثورة، وليس دليلاً عن فشلها وفقدان زخمها كما روّج بعضُ المهزومين وممتهني خطاب التيئيس، لا يمكن للثورة أن تُشكّل غطاء للقتلة والفاسدين والفاشلين والسلاح والمافيا والجريمة المنظّمة، وكلّ ذلك يوجب على القوى المجتمعيّة الحيّة إعادة تقويم الموقف ورسم الاستراتيجيات للمرحلة المقبلة.
تحديات قد تقلب المشهد
أما في التحديات التي تواجه حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثالثة: فبعيداً عن القراءة السياسية، للظروف والملابسات وموازين الربح والخسارة، باتت هذه الحكومة أمراً واقعاً، وأمامها تحديات، يمكن إن نجحت في مواجهتها، أن تعيد ترتيب المشهد والموقف منها، ومن فَرَضية تحقيق الإنقاذ، ومن أهم هذه التحديات:
أولاً: أن تثبت استقلاليتها، وأجندتها اللبنانية حصراً، لتُحدث خرقاً في جدار الأزمة، فالبلد باتَ يُدار من مافيات التهريب، وكارتيلات القطاعات، وأشباح السوق السوداء، والجوع باتت يهدد ثلثي الشعب، ثمّ ماذا عن أزمة المحروقات بكل تشعباتها الوسخة، وماذا عن فضائح الكهرباء بكل وجوهها الفاسدة، وماذا عن البطاقة التمويلية بكل شبهاتها المحقّة؟
ثانياً: محاورة صندوق النقد بخطة شفافة، وأرقام موحّدة، ورؤية إنقاذية ذاتُ بُعدٍ وطني، والتعهّد بالالتزام لاحقاً بمتطلبات الخروج من الأزمة.
ثالثاً: الالتزام قولاً وفعلاً بتحقيق العدالة في جريمتي مرفأ بيروت والتليل من دون مواربة أو تضليل.
رابعاً: السعي لفك عزلة لبنان العربية، مع السعودية تحديداً، التي أثبتت حرصها على لبنان والشعب اللبناني أكثر بكثير من منظومته السياسية.
خامساً: التمهيد لانتخابات نيابيّة شفافة، بقانون عادل، وحرية كاملة، ورقابة ضرورية.
المطلوب، أمس واليوم وغداً، حكومة تحظى بالثقة والاحترام، تعمل على تنفيذ الإصلاح المنشود، وتتمسك بالعدالة والحقوق والحوكمة، وتثبت بأن العبور إلى دولة عصرية مدنية، ومواطنة حقيقية.. ممكن.