بالرغم من كل الأزمات، بل بحثاً عن بداية حل لكل الأزمات، ستتهيأ صناديق الاقتراع لقرار الشعب بإعادة تشكيل السلطة السياسية. صحيح أن الانتخابات هي البديل الوحيد عن الحرب الأهلية لكنها ليست السبيل السهل. فالطريق إليها ليست معبدة بل مليئة بالحفر والعراقيل وأولها القانون الذي ستجرى على أساسه، والذي يمكن القول عنه من غير مبالغة إنه أسوأ قانون على الإطلاق عرفته الديمقراطيات الحديثة، لأن المنطق الذي حكم صياغته هو منطق المحاصصة الميليشيوية، التي هي بالتعريف ضد التغيير وضد الديمقراطية. وإذا كان يحق لي تحديد أولويات في برنامج الثورة فتعديل القانون يقع في رأس اللائحة.
لا مصلحة للبرلمان الحالي بإقرار قانون جديد، لأن عقله التشريعي مبرمج على مجابهة الناس لا على الاستجابة لمطالبهم، لذلك لا بد من عملية تشحيل، بلغة الزراعة، لتبزغ براعم وأغصان جديدة في الربيع. فهل سيفسح القانون الحالي في المجال لجيل الشباب والشابات من قوى الثورة وقوى التغيير بأن تتمثل في البرلمان المقبل، وما هي شروط ذلك؟
دروس من دورة 2018 قد تفيدنا في ذلك. القانون معقد ومركب، يعتمد النسبية في المحافظة والحاصل الانتخابي للائحة والصوت التفضيلي داخلها. بموجبه تفوز اللائحة بعدد من المقاعد يوازي عدد الحواصل الانتخابية. تمت صياغة القانون لتحكم المحاصصة سيطرتها وليتمكن من الفوز بعض من لم يحالفهم الحظ على القانون الأكثري.
يجمع المراقبون على أن التعديلات المحتملة في تركيبة المجلس النيابي المقبل طفيفة لكنها، على قلتها، ستهز جذع الشجرة الهرمة، وأن سهولة منالها تتفاوت بين منطقة وأخرى وطائفة وأخرى، وأن أصعبها قد يكون محصوراً في مناطق نفوذ الثنائي الشيعي.
في انتخابات 2018 كان يمكن أن يحصل خرق انتخابي في أكثر من منطقة، وكان يمكن أن تتكرر تجربة “بيروت مدينتي” في محافظة النبطية وفي محافظة البقاع الشمالي اللتين لم يتوافر فيهما عامل النجاح الأساسي الذي توافر جزئياً في بيروت. شرط النجاح هو ترجمة الاعتراض الشعبي بتجميع حواصل انتخابية. كان يمكن أن يحصل ذلك لو لم يحل موقف “الحزب الشيوعي” الخاطئ في الأولى والخلافات العشائرية في الثانية دون تجميع أصوات المعترضين. ففي الأولى سبق للمعارضة بقيادة اليسار ممثلاً بحبيب صادق أن حصدت ثلث أصوات المقترعين في دورة سابقة، وفي الثانية جمعت المعارضة أربعين بالمئة منها في الدورة التي سبقت.
تجميع الحاصل الانتخابي يحتاج إلى أصوات قبل حاجته إلى برامج، والأصوات لا تحسب إلا للوائح. يعني ذلك أن البرنامج الانتخابي لا يقدم ولا يؤخر إن لم ينضو صاحبه في لائحة. وإذا كانت اللائحة أهم من البرنامج فالطريق إلى الفوز يبدأ بالقدرة على تجميع المرشحين، وبالتالي على تجميع الأصوات. وهو يعني أيضاً أن العدد هو المهم في الحاصل الانتخابي بل هو الأهم وله الأولوية على ما عداه من مواصفات برنامجية وأخلاقية وسياسية.
اللائحة في هذا القانون الانتخابي تجمع متخاصمين أو متنافسين. عليهم أن يتعاونوا على تجميع الأصوات للائحة لتأمين حاصل انتخابي، لكن الناخب ينتخب مرتين، في الأولى ضد اللوائح المنافسة وفي الثانية ضد منافسيه من أعضاء اللائحة ذاتها. ماكينة “الحزب الشيوعي” لم تأخذ بالاعتبار هذه الفروقات الدقيقة في القانون وتصرفت كما لو أنه القانون القديم الأكثري، ولم تأخذ بالاعتبار موقع “الحزب الشيوعي” في هذه الدائرة، ولذلك لم تستجب لطلب المرشحين من خارج المحدلة الراغبين بتشكيل لائحة مشتركة معه، طمعاً بأصواته وانتشاره التاريخي في أقضية المحافظة وبقدرته على تغطية كل أقلام الاقتراع.
بالإضافة إلى فهم آليات القانون وتعقيداته يحتاج النجاح إلى قرار سياسي. القيادة المركزية في “الحزب الشيوعي” أحالت الأمر إلى قيادات المناطق، وفي محافظة النبطية الانتخابية قرر اليساريون عزل أنفسهم في لائحة وعدم التعاون مع أي من المرشحين فألغوا أي احتمال لخرق اللائحة المنافسة. فيما أفاد أحدهم أن قرار عدم التعاون هو قرار مركزي، والغاية منه استبعاد المواجهة مع الثنائي الشيعي ومحدلته الانتخابية.
لأول مرة ستخوض قوى الثورة والتغيير معركة انتخابية، وهي تجربة جديدة على معظم المشاركين فيها، باستثناء اليسار الذي شارك في كل الدورات منذ ما قبل الحرب الأهلية. لذلك يمكن الاستفادة من تجربته، ولا سيما أن دوره ما زال مؤثراً في الانتخابات التشريعية المقبلة، وعلى أساس هذا الدور يتحدد مستقبله، فإما أن يكون عامل تجميع لقوى الثورة وتحقيق الفوز على غرار ما حصل في نقابة المهندسين أو أنه سيعلن الخروج من صفوفها والخروج على مبادئها.
تحفيزاً لليسار القديم وللمتحدرين من أصول يسارية على الانخراط انتخابياً في صفوف الثورة سأقدم سلسلة من المقالات أعرض فيها شريطاً لمواقفه من الانتخابات منذ الطائف لاستخلاص الدروس وفتح النقاش، منطلقاً من أن اليسار الحقيقي اليوم هو الذي يناضل من أجل إعادة بناء الوطن سيداً حراً مستقلاً، وإعادة بناء الدولة، دولة القانون والمؤسسات.