Site icon IMLebanon

لماذا انْحَسَرَت الثَوْرَة؟

 

شَهِدَت بيروت في السابع عَشَرْ من تِشْرين الأوَل عام 2019 انْطِلاقَة انْتِفاضَة شَعْبيّة تَمَيّزت بِزَخَمٍ نادِرِ القُوّة. جَسَّدَت هذه الإنْتِفاضَة الأمَلْ بالتَغّيير المَنْشود، غَيْرَ أنها أخَذَتْ بالتَراجُعْ مع مُرورِ الزَمَنْ لأن الأمَلْ لم يُشكِّل يوماً استراتيجيّة فَعّالَة. عزا البَعْض هذا التراجُع الى القَمْع الوَحْشي الذي تَعَرّضَ له المُتَظاهرون، بَينَما اعْتَبَر البَعْض الآخر أن جائِحَة كورونا والأزمَة الاقتِصاديّة هما السَبَبَ الأساسي وراءه. لن نَغوصَ فيما قيل لأن الحَقيقة ليست في مُتَناوَل أحَدْ، بل سَنَعْتمد مُقاربة مُختلفة تَرْتكَزِ على عِلْم النَفْس السياسي الذي تَخَطّى نَظرية «الإنسان المُتعقّل» بعد أن نَقَضَتْها بِشَكْلٍ قاطِع الأبحاث الحَديثَة في حَقْلِ العلومِ العَصَبيّة وطُرُق عَمَل الدِماغِ البَشَري. وتَهْدُفُ تِلك المُقارَبَة الى الإضاءَة على العُيوبِ المَعْرِفيّة التي تُؤثِّر في مُعْتَقداتنا وأفْعالَنا، مع الإشارَة الى أَهَمِّيَة دَوْرِها في المَواقِف التي نَتّخِذها.

بالفِعْل، إن مَفْهوم العَقْل المُحايد الذي يَتّخِذ القرارات إثْرَ دِراسة الأدِلّة واسْتِخْلاص الإسْتِنْتاجات الجَيِّدَة لا عَلاقة لهُ في الواقِع بِكَيفيّة عَمَل الدِماغ البَشَري، خاصَةً حينَ يَتَعَلّق الأمْر بالسِياسَة. ذلك أن «العَقْل السِياسي» هو بالفِعْل «عقل عاطفي» لا يَمُتُّ بِصِلَة الى الآلة الحاسِبَة التي تَسْعى بِمَوضوعِيّة نَحو الوصول الى الوقائع الصَحيحَة لِكَي تَتَّخِذ القرارات الصائِبَة.

 

ولا نُفْشي سِراً حين نقول انّ تَصادُم العَقْل مع العاطفة في السِياسَة يؤدي دائماً الى انْتِصارِ العاطفة حتماً، بِسَبَب مجموعة القيود التي تَتَحَكّم بقراراتنا سَواء أكان ذلك في حياتنا اليوميّة أو في خياراتنا السياسِيّة. نَعْني بِذلك القيود المَعْرِفية التي سَبَقَ وأشَرْنا إليها وهي ناتجة عن المعلومات المُتوفّرة لدينا، وأيضا القيود العاطفية التي تَفْرُضُها المشاعر المُرتبطة بِظَرْفٍ ما. فَنَحْنُ نَعْتَقْد أن ما نراه ونَسْمَعْهُ في حياتنا اليَوميّة لَهُ أثَر مباشر على ما نَشْعُرُ بِه حِيالَ أمرٍ ما، إلاّ أن العكسَ هو الصَحيح، بِمَعْنى أن ما نَشْعُر بِه حِيال هذا الأمْر هو الذي يَبْني رؤيَتَنا تِجاهَهُ. هذا الشعور الداخلي هو ما يُعرف عِلمياً «بالواقعية العاطفية». أي عندما نؤكّد صِحَّة خَبَرٍ ما بِسَبَبْ شُعورِنا الداخلي تِجاهَهُ الذي يَدْفَعُنا الى تَصْديقه، أو بالعكس عندما نَشُكّ بِصِحّتِهِ لأنه لا يُعْجِبُنا، حتى أننا أحياناً قد نَشْعُرُ بالكِرْه تِجاه مَن وراء هذا الخَبَرْ. لماذا نَشْهَد رَدّات الفِعْل هذه؟ لأننا ببساطة نُفَضِّل الأخبار التي تَدْعَم مُعْتَقَداتِنا ونَرْفُضْ تِلْك التي تُعارِضُها. يُساعِدُنا في ذلك دِماغُنا الذي يَمْلك قِدْرَة مُلْفِتَة على إيجاد السُبُل المؤدّية إلى الحقيقة التي تُناسِبُهُ أو التي تُريحُهُ حتى ولو لم تَكُن صَحيحة أو مُقْنِعَة، فهو مُجَهّز لهذا النَوْع من التَضْليل.

 

يَهْدُف هذا العَرْض الموجز لِدَوْر المَشاعِر في سُلوكِ الإنسان السِياسي إلى إلقاءِ الضَوْء على رَدّة فِعْل الناس في السابع عشر من تشرين الأول إثْرَ زيادة سِعْر الواتساب. هذا التَجاوب التِلقائي مع الدَعوة الى التظاهُر يَنْتَمي الى ما يُعْرَف بالمواقِفِ المَبْدئية التي تُوَلّد رَدّة فِعْل عاطفية فوريّة، أكانت نابعة من شُعورٍ فِطري لمُقارَبة الأمور أو من شعور مَعْنَوي كالغَضَب. ويَبدو أن المَوقِف المَبْدئي يَمْلك أكبر قَدَر مِن التأثير العاطفي في السياسة على رغْم أنه لا يُقدِّم اقتراحات في مَجالِ السياسات العامة ولا يَدْخُل في تفاصيلها. بمعنى آخر إنه الترْجَمَة العاطفية لمبدأ أيديولوجي أو لإحدى القيمّ الأخلاقية تِجاه مُشْكِلَة مُحَدّدة، وهو أيضا الموقف الذي يَدْفَع بالناس الى القول: نعم هذا ما أشْعُرُ به أنا أيضا! إنه الشرارة التي اسْتَنْهَضَت قِسْماً من اللبنانيين وحَمَلَتْهُم على التَظاهُر بعد أن شَعَروا بفائضٍ من الغَضَب نابع من مَوقِف مَبْدئي رافض للإسْتِمْرار بالتَعَدّي عَلَيهم مِن قِبَلِ سُلْطَةٍ تأخُذ الكثير ولا تُعْطي حتى القليل.

 

وبعد، لماذا انْحَسَرت الإنتِفاضَة؟ السَبَبْ يَكْمُن في طريقة إدارة الغَضَب الذي ارتَكَز عليه الموقِفْ المَبْدئي. فبَدَل المُحافَظَة على شُعورِ الغَضَب الذي يُثير الحَماس ويُستعمل كوقود من أجلِ الوصولِ إلى المَطالِب، شَهِدْنا عَدَم تركيزٍ عليه أدّى الى تَشْتيت الهَدَف. بالإضافة الى لُجوءِ الخَصْمِ الى تَشْويهِ صورةِ المُتَظاهرين دونَ العَمَل من قِبَلِهم على التَصَدّي لهُ، وذلك من خِلال خَلْقِ رَوابِط عاطفية هَدَفَت الى تَحْقيق انْطِباع سَلبي لدى الناس. لقد سَمَحَت تداعيات سوءِ إدارَة الغَضَب الشعبي بالوصول الى ما يُعرَفْ «بالخَوْف السِياسي» وهو حالَة من الصَعبِ السَيطرَة عليها. فعِنْدَما كانت المَطالب تَطال مَفاهيم عامَة ضِمْنها الفَساد وقَمْع الحُرِّيات، نَجَحَت الإنْتِفاضَة الشَعْبيّة في اسْتِقْطابِ مُختلف المُيولِ السياسية والطائفية والإجتماعية، الى أن حَصَلَت الصَدْمة بعدَ تَقْديم رَئيس الوزراء سَعْد الحريري اسْتِقالَتِه، حِيَنها شَعَرَ السُنّة أنهُمّ مُسْتَهْدَفون طالما أن الإستقالات اقْتَصَرَت على طائِفَتَهُم. ومن المَعْلوم أن اسْتِقرار الوَضْعِ على حالة «الخَوْف السياسي» يُؤدّي عادةً الى الإنْحِرافِ عن المُتَوَقّع، وفي الحال هذه، الإسْتِمْرار بالتَظاهُر والمُعارَضَة، كما أنه يَدْفَع بالناس نحو البَحْثِ عن مَعْلومات أكْثَر بِهَدَف تَحْديد خيارات التَحَرُّك أو إمكانيات التحالفات سَعْياً وَراء تَخْفيف المَخاطِرالتي أصْبَحوا يَشْعُرون بها. بناءً عَليه يُحْبِط الخَوْف إرادة المُجازفة وخَوْضِ المُغامرات المُرتفعة التَبِعات. الشيء المؤكَدّ هو أن الجُمْهور عُموماً قد لا يَمْلُك مَوقِفاً ثابتاً من الأيديولوجيات، الا أن حِسّ الولاء المُطْلَق للمَجْموعَة التي تُشارِكُهُ هَوِيَتَهُ (مهما كان نوعها) لا يَحْتمِل أيَ شكّ.

 

أي أنه عندما تَشْعُرُ أيَّ مَجْموعَة بِتَهْديدٍ يَطالُ أحَدَ رَكائِزَ هَويّتِها، سُرعانَ ما تَتَبَّنى مَوْقِف «نحنُ مُقابِل هُمّ» مُتَناسِيةً المُشْكِلَة الأساسية لتَنْتَقِل مِن بَعْدِها إلى حالٍ من النِكْران لها. تأتي رَدَّةَ الفِعْل هذه نَتيجَةَ الضائِقَة الإنْفِعالية الناتِجة عَن صِراع بَيْن ما تُريدُ أن تُصَدِّقُهُ هذه المَجْموعَة، ألا وهو تَخَطيّ الإنقسامات الطائفية، وبين ُورود مَعْلومات مُزعِجَة تَتَعارَض مع هذه الرَغْبَة. اذاً، إرْتابَ السُنّة من المَسيحيين الذين لم يُشَدِّدوا على اسْتِقالَة رَئيس الجُمْهوريّة، ورَفَضَ الشّيعَة ومَعَهُم المَجْموعات اليَساريّة المَسّ بسِلاح «حِزب الله»، في حين لم يَقْبل أنصار التّيار الوَطَني الحُرّ بِشِعار «كِلُّن يعني كِلُّن» لأن بِنَظَرِهِم أعضاء تَيّارِهم ليسوا بفاسدين. سَمَحَت حال النِكران هذه لدى مختلف المَجْموعات بالمُحافظة على امْتِثالِها الأيديولوجي وانتِمائها السياسي اللذَيْن كانا وما يزالان يؤمّنان لها الحِماية.

 

وهنا عُدْنا حيث بدأنا، أي الى الستاتيكو أو «الوضْع الراهن» الذي طالما تَضَمّن مَيّزات جَوْهَريّة تؤدي دوراً مهمّاً في تقْييم الخيارات. بالفِعْل، فقد أظهرت الأدِلّة العِلْمية أنّه من السَهْلِ علينا فَهْم الأمور المألوفة، بينما التفْكير بالخَيارات الجديدة يَتَطّلب جِهداً أكْبَر ويُسَبِّب لنا شعوراً بالازعاج، بالإضافة إلى نَزْعَة الإنسان الى التَفْكير أكثر في الخسائر المُحْتَمَلة بَدَل التَفْكير بالرِبْح المُحْتَمَل حين يضطرّ إلى حلّ مُشكلة ما. أخيراً، وبِسَبَبْ كَوْن الدِماغ البَشَري عُضْواً غير تفاعلي، أي أنه لا يُنْتِج المشاعِر تِلقائياً وفقاً للحالة التي يواجِهُها، بل يَسْعى باسْتِمرار إلى التَجاوب مع المعلومات التي يَتَلقّاها عِبْر اللجوءِ الى التجاربِ السابقة كي يَخْتار منها أفْضَل رَدَّة فِعْل، ولأننا تَوَهّمنا بأنّ إدراكِ الحقائِق والوقائع كافٍ لِدَعْم استمراريّة الإنْتِفاضَة؛ دُهِشْنا لماذا لم يَدْفَع ارتِفاعُ الدولار الجُنوني بالناسِ إلى التَظاهُر.

 

هل يَعني ذلك أن الفَشَل في التَغيّير هو أمر مُحَتّم؟ بالطبع لا.

 

يَعْتَبِر الفيلسوف والعالم الفرنسي بليز باسكال أنه من الأفْضَل إقناع الناس عِبْر الأسباب التي يَكتَشِفونَها هُمّ بَدَل تلك التي تَتَبادر إلى أذهانِ الآخرين. والفصاحَةُ تكْمُن في فَنّ قول الأشياء بطَريقَةٍ تجْعَلُ الذين يَستَمعون إليك لا يَشْعُرون بالانزعاج بل بالإهْتِمام. إنه تَوافق نَسْعى إلى تَحْقيقه بين العَقْلِ والقلبِ اللَذين نَتَكلّم معهما من جِهَة، وبين الأفكار والمُصْطَلحات التي نَسْتَعمِلها من جِهَة أخرى. بمعنى آخر، الحقائقُ وحْدَها لن تُحَرِّرُنا، كذلك الأمر بالنِسبة للاسْتِنتاج المَنطِقي؛ لأن الناس يَتّخِذون قراراتِهم السِياسية بِناءً على نظام قِيَمِهِمْ واللغة والأُطُر التي تَسْتَدْعي تِلك القِيَم. الأهَمّ هو أن نُدْرِك مَدى تَعْقيد عَمَلية الإقناع التي متى توَصّلْنا الى فَكِّ رُموزِها، يصبح التَغْيّير مسألةَ وَقْت.